الرياض - الهجمات التي ضربت مترو ومطار بروكسيل الأسبوع الماضي، أشعلت مجدداً الجدل الطويل حول مستقبل الأمن الأوروبي.. في ظل هجمات إرهابية أصبحت الشغل الشاغل اليوم لأوروبا المضطربة. داعش الرقة، تعلن مسؤوليتها. وداعش أوروبا، عنوان "الإسلام فوبيا" الذي أخذ يشق طريقة وسط القلق الأوروبي الكبير من تداعيات قد تفجر مزيداً من التوتر في ضفة المتوسط الأوروبي!! في كل جريمة يأتي السؤال: من المستفيد؟ وما ان تعلن داعش الرقة مسؤوليتها، حتى تتوارى الأسئلة الحائرة والمحيرة، لتظل فقط تدور الإجابات حول إرهاب داعشي عابر للقارات. وإذا يعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن تلك الهجمات، فهل يكفي هذا لحجب الأسئلة الحائرة عن عقول لازالت تتساءل: من المستفيد؟ وما الهدف؟ وإلى ماذا يمكن أن تؤدي ضربات داعش في بعض البلدان الأوروبية؟
هل ثمة عقل يخطط لهذه العمليات متجاوزاً لعقول البشر؟ حتى لتبدو المصلحة والهدف معمى لدرجة الحيرة والذهول؟ ماذا تريد داعش من هذه العلميات؟ ألم تحشد المزيد من القوى في العالم لحربها؟ ألم تصنع ما يكفي من أعداء دوليين جدد من خلال إدارة حروب التوحش حتى أصبحت الرمز المرعب الذي تحتشد تحت ملامحه "الإسلام فوبيا" في العالم بأسره؟
بل كيف يستطيع تنظيم محاصر في العراق وسورية أن يصل إلى بناء منظومات متشابهة ومرتبطة في سرت ليبيا وسيناء مصر وجنوب اليمن وصحراء أفريقيا ليصنع أكبر ملامح الإغراق المستمر في الهدم والتدمير والإثخان؟! وفي وسط تلك الأسئلة، هل يجب علينا التذكير مرة أخرى بأهمية الفرز بين حلقتين في مشروع الإرهاب الداعشي والقاعدي.. أي بين العقل المخطط والأهداف التي يرمي لها، وبين الأدوات المنفذة.
العقل المخطط، هل يمكن اكتشاف ملامحه أو بعض ملامحه إلا من خلال مؤشرات قد تقود إلى بعض أهدافه؟ أما الأدوات، فتلك البيئة التي تصطرع فيها الهويات الضائعة والشعور بالعجز وأحيانا اللامعنى.. ثم مرحلة التجنيد أو التوظيف من خلال استلهام معنى روحي يتسلل إلى عقول جاهزة للاستقبال عبر تركيز فكرة الخلاص على أعتاب الشهادة المتخيلة في حروب الهويات القاتلة.
الأسئلة الحائرة أو المحيرة، تدور حول العقل المخطط وأهدافه ومراميه؟ أما الأدوات فتلك قصة أخرى وقراءة أخرى.. هل يمكن لداعش أن تتحرك وتقاوم وتصل إلى قلب أوروبا وضفاف الأطلسي ومجاهل سيناء وجبال اليمن، وصحراء أفريقيا.. دون أن يكون ثمة تمويل كاف ومخطط محكم وأصابع سرية تتحرك على خريطة المنطقة لتصنع الأزمة تلو الأزمة والإثخان تلو الإثخان وترسم بالدم ملامح مستقبل تحوطه الكثير من المخاوف والتيه الكبير.
ما الأهداف الكبرى لهجمات داعش في أوروبا؟ وإلى ما يمكن أن تؤدي؟ وما هي الأطراف المستفيدة من وضع المنطقة العربية في بؤرة التوتر والتفتيت والإنهاك المتواصل؟ إذا كانت القاعدة/التنظيم، وصلت إلى مانهاتن لتفجر الوضع في العراق على النحو الذي رأيناه منذ عام 2003، فهاهي داعش/التنظيم، تفجر لا في باريس أو بروكسل ولكن في الاتحاد الأوروبي برمته، الذي يتداعى اليوم لمواجهة إسلام، أصبح يُحمل عبء هذه الكوارث باعتباره جزءاً من حلقة الصراع الكبرى عبر تعميمات الإرهاب الداعشي أو القاعدي. المقابلة بين تنظيمين خرجا من عباءة واحدة، ولكنهما افترقا إلى حد الاقتتال، ألا يعني أنهما يتحركان في مشروعين تتناقض فيهما المصالح والأهداف والقوى الفاعلة؟.
مرة أخرى لندع أدبيات الجهاديين، وأدوات التفجير والتفخيج وحطب النار المستعرة، إلى حيث الأسئلة التي تطال الفاعل المؤثر في رسم مخطط أبعد من قضية شعارات الدولة الإسلامية، ومن قضية نصرة.. تتوسل أدبيات القاعدة.. إنها إرهاصات لأخطر ملامح الصراع بالوكالة في القرن الحادي والعشرين.. قائمة المستفدين الصغار من هجمات أوروبا كثر، فالنظام السوري والإيراني يتنفس الصعداء مع كل هجمة من هذا النوع؟ إنها تطيل في عمره وتمكنه من مزيد من المناورات والتحلل من الضغوط.. على الرغم من أن النظامين نفسيهما ساهما في بروز واستثمار داعش على النحو الذي لم يعد جديداً أو الحديث عنه لافتاً. وإسرائيل يجب أن تكون حاضرة فهي المستفيد الأبرز من هذه التداعيات.
لنعُد لمرحلة أبعد قليلاً، فهل كان لداعش أو القاعدة أن تجد موطئ قدم في العراق أو سورية لولا الغزو الأميركي للعراق، الذي نقل تنظيم القاعدة إلى خاصرة القوات الأميركية هناك، والتي لم يطل بها البقاء بعد خسائرها الجسيمة.. هندسة مشروع العراق الطائفي وفق المنظور الأميركي مكّن القاعدة ثم داعش من حاضنة شعبية وجدت نفسها بعد انهيار العراق العربي في عهدة نظام ولاية الفقيه الإيراني ووكلائه في العراق.. حيث كان الخيار بين الفناء أو المقاومة حتى لو تطلب الأمر التماهي مع القاعدة أو داعش. ومهما بلغت محاولات الإخفاء، فهناك قوى كبرى تتصارع على المصالح والنفوذ وتقسيمات المنطقة منذ الإطاحة بالعراق كدولة في عام 2003.. وهل يمكن تفسير ما يحدث دون استدعاء هذا الدور؟.
عندما جاءت الانتفاضات أو الثورات الشعبية منذ مطلع 2011، التي كان محركها الجماهير التي خرجت للشارع محملة بالأمل والحلم بعد عقود من القهر والاستلاب.. في تلك المرحلة كادت أن تصبح القاعدة خياراً منحسراً مرتبكاً.. بل كان المتوقع أن تكون قوى الإسلام السياسي التي اندمجت في الحراك الثوري لتساهم في إعادة صياغة النظام العربي، كان متوقعاً أن يستقطب موجات أخرى وأكبر من الشارع العربي مما يجعل مشروع العنف والإرهاب معزولاً.. إلا ان مواجهة تلك الخيارات.. وإغراق المنطقة بالدم، أدى فيما أدى إليه إلى بروز مشروع القاعدة وداعش التقويضي.
ألن يكون صراع المصالح والنفوذ بين قوى إقليمية ودولية، بالتحالف أو التضاد، جزءاً من حالة استدعاء الفشل لتبرز على السطح مرة أخرى قواعد الإرهاب وتنظيماته. ألا يعني هذا إمكانية رعاية تنظيمات بطريقة أو بأخرى تتوسل اليوم العنف وتمارس التوحش.. لتعطيل حركة الشعوب التواقة للكرامة والحرية والمشاركة ودولة القانون، لتقع تلك الشعوب صريعة الدفع بالعنف والعنف المضاد.
القوى التي ليس من مصلحتها أن تستيقظ هذه المنطقة على حلم بناء الإنسان.. فلمَ لا يكون من أهدافها إثخان العرب.. وصولاً إلى حالة تفتيت وتقسيم وإضعاف طويل وإجهاض لحلم المواجهة الحضارية التي تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه.
راقبوا سلسلة التطورات.. في 2001 جاءت هجمات مانهاتن.. في 2003 جاء غزو العراق، وسلم العراق لوكلاء إيران، لتظهر القاعدة - عدو أميركا - في العراق بقيادة الزرقاوي.. في 2011 انطلقت الثورة السورية لتظهر داعش فيما بعد.. لتصبح أوروبا هدفاً لهجمات داعش.. الاختراق المخابراتي، وتوظيف القاعدة وداعش، في الضرب هنا وهناك.. لن يكون خيالاً ضارباً في الوهم.. وإلا كيف يمكن تفسير ما يحدث؟.
القاعدة أو داعش، هل يمكن فصلها عن حالة صراع دولي، توظف فيه قدراتها الانتحارية لإرباك الخصم في صراع يخفي أكثر مما يعلن..؟ ولا يمكن بحال تفسير نشاط هذه التنظيمات وتمدداتها وقدراتها إلا من خلال تمويل ودعم استخباراتي وتخطيط محكم... لتظهر لنا في الأخير صورة واحدة لا سواها.. مشهد التفجير والضحايا.. ثم يأتي إعلان داعش.. ثمة أجزاء من الصورة لا تظهر أو لا يراد لها أن تظهر!!.
داعش لازالت أحجية صعبة ومعقدة لن يحل طلاسمها لا شعارات زعيمها البغدادي، ولا ورثة الزرقاوي ولا حروب الطوائف في العراق وسورية، فتلك أعراض لمرض فتاك.. وستظل إجابة الأسئلة الحائرة معلقة إلى حين!