الحياة - ثمة صمت وقبول لبنانيان عامان بالمهمة التي يؤديها «حزب الله» في سورية. الصمت والقبول يمارسهما أيضاً خصوم الحزب مثلما يمارسهما حلفاؤه. وبدأت نتائج هذا القبول تحاصر ما تبقى من لبنان: ذاك أننا حيال هذه المهمة والصمت الممارس حولها، أمام تجربة صياغة وعي وخبرة معيقين لاحتمالات رأب الصدع الأهلي.
آلاف من الشبان اللبنانيين يُقاتلون في سورية ضمن حرب أهلية إقليمية، يدعمهم في خطوتهم اقتصاد رديف لا يمت إلى الدورة الاقتصادية الداخلية بصلة، ويتوجهون الى القتال مشحونين بقيم جديدة يؤدي حملها إلى مزيد من الاغتراب عن قيم مواطنيهم غير الموصولين بالقتال هناك، وإن كانوا قبلوه متواطئين على أنفسهم ومستقبلهم.
الصحافة اللبنانية لا تعمل في مناطق نفوذ «حزب الله» في لبنان، ولا تنقل لنا ما يجري من متغيرات تبدو هائلة لجهة استيراد القيم الجديدة من مناطق النزاع الإقليمية في سورية أولاً، ثم من العراق وربما من اليمن أيضاً. والصحافة أيضاً لم ترصد مؤشرات اقتصاد الحرب السورية وانعكاساته اليومية على مسارات الحياة في الضاحية الجنوبية والقرى والبلدات الجنوبية والبقاعية، ولم تقل لنا إن ثمة تفاوتاً كبيراً بين ضائقة اللبناني غير المقاتل في سورية، ومواطنه المقاتل هناك، وهو تفاوت لا يعكس تقدّم فرص الثاني حياةً ومستوى معيشة، إنما يعكس مضموناً مختلفاً لمعنى المواطنة بصفتها اشتراكاً في الضائقة والهواجس والهموم.
وعلى رغم الصمت الممارس على المهمة في سورية، لم يعد ممكناً ضبط النتائج على أكثر من مستوى. قتلى الحزب العائدون من سورية ليسوا المستوى الوحيد لانشطار المشهد الاجتماعي اللبناني نتيجة انخراط جماعة من جماعاته في حروب خارج الحدود. فرواتب المقاتلين مثلاً، صارت جزءاً من حكايات مؤجري المنازل عن مستأجريها، وانخفاض أعمار المُجندين صار مرتبطاً بانخفاض سن الزواج نظراً الى ما يتيحه من رواتب غير مرتفعة لكنها محفّزة على مباشرة الانفصال عن الأهل. وليست صور قتلى الحزب في سورية وحدها ما يشحن المشهد في مناطق نفوذ «حزب الله» بذلك البعد التراجيدي، إنما أيضاً صور الأئمة ومقاماتهم، تلك المستدخلة على ثقافة التشيع اللبناني، نتيجة الاحتكاك بقيم التشيع العراقي والإيراني.
ومحاكمة صمت اللبنانيين على هذا الصدع الأهلي الجديد يجب أن تتم على أساس أن وظيفة صمتهم تتمثل في قبولهم بابتعاد جماعة كبيرة من جماعاتهم من مشهد تواطأوا على أنه مشهدهم. فانعكاس الافتراق في مؤشر عمر الزواج مثلاً، بين جماعة وأخرى، ربما يصح في حال تحدثنا عن التفاوت في العلاقات بين الريف والمدينة، أو بين الأغنياء والفقراء، أو المتعلمين وغير المتعلمين، أما أن يمتد هذا المؤشر ليفصل بين المقاتل في سورية وغير المقاتل فيها، فهذا يعني استدخال الحرب بصفتها جزءاً من المضمون الاجتماعي والاقتصادي للمواطنة، وعلى هذا النحو تتشكّل مجتمعات الحروب. فالقتال حين يكون فرصة تقدّم، يصبح طموحاً مشروعاً، وهو إذا كان كذلك في عرف «حزب الله»، فمن المفترض ألاّ يكون كذلك في عرف معارضي قتال الحزب في سورية، وما يؤديه صمتهم عن مهمة الحزب هناك هو عكس ما يُفترض أنهم يُضمرونه.
لكن الشرخ الكبير في القيم وفي الفرص، والناجم عن المهمة الإقليمية لآلاف الشبان اللبنانيين الذين يقاتلون في سورية، لا يقتصر على مظاهر التفاوت هذه، إنما يمتد إلى انصهار جماعة «وطنية» في مشروع يتولى إذابة الحدود الواقعية للمواطنة في هوية نفسية واقتصادية جديدة. فأن يكون مواطنك مرتبطاً بدورة اقتصادية موازية، وأن يُشحن بقيم من خارج ما تواطأ اللبنانيون الشيعة على أنه هويتهم المذهبية، وأن تتصل هواجسه وطموحاته بمستقبل جماعات خارج الحدود، فهذا يعني أننا أمام عملية انشقاق جوهرية عن الهوية حتى بمعناها القانوني. وإذا ما أضفنا إلى ذلك حقيقة أن «حزب الله» السلطة الوحيدة في لبنان، والقوة القادرة والساعية إلى فرض نموذجها، فهذا يعني أن الصمت اللبناني عن المهمة في سورية صمت مهدد لما تبقى من النموذج.
المسيحيون اللبنانيون ممثلين بقوتهم الرئيسة في البرلمان والحكومة، أي التيار العوني وحلفاءه الأرمن والمردة، تواطأوا مع الحزب في مهمته السورية منذ البداية، وها هو الصدع وقد وصل إلى رقابهم، فلا رئيس للجمهورية حتى بعد أن تبنى خصومهم ترشيح زعيميهم ميشال عون وسليمان فرنجية إلى المنصب. المهمة في سورية لا تنسجم مع وجود رئيس للجمهورية. والسنة اللبنانيون قبلوا بـ«حزب الله» شريكاً أكبر في حكومة سموا هم رئيسها، وها هم عالقون في الفراغ الكبير بانتظار إنجازه مهمته في سورية.
هذا كله يبقى ضمن لعبة الأرباح والخسائر، ويبقى مضبوطاً بحقيقة أن الحزب هو الفريق الأقوى في المعادلة. لكن الارتجاج الفعلي يصيب مناطق أعمق، فالانفصال عن النموذج والابتعاد بالقيم يؤشران إلى رفض جوهري لطبيعة الكيان، وهما يستأنفان تركيب هوية وفق معطيات جديدة كل الجدة على ما تم التوافق عليه عند قيام لبنان. وهذا الارتجاج يجري على وقع تحضير خرائط جديدة للمشرق المحتضر. فأن يتصل الشيعي اللبناني بالشيعي العراقي عبر شعيرة استدخلها الأول خلال قتاله إلى جــانب الثاني في سورية، فهذا يعني أننا حيال ظاهرة هوية جديدة، ومن يقترب من البيئات اللبنانية المشاركة في القتال في سورية سيلمس مستوى التغيير في كل شعائر العيش والممارسة والاستهلاك، وصولاً إلى اللغة والعبارة والتحية.
ثمة خبث مذهبي أيضاً وراء القبول اللبناني بمهمة الحزب في سورية، ذاك أن هناك من اعتقد أن خروج الحزب للقتال هناك سيريحه من أعباء وجوده في لبنان. وهذا خبث السُذج، ذاك أن الحرب في سورية أدخلت لبنان كله في ماكينة الحرب تلك، وأول ما فعلته إلغاء الحدود، وهو ليس إلغاء للحدود المرسومة بين البلدين، إنما أيضاً إلغاء لحدود الحرب بمعناها الميداني والنفسي والسكاني. وهو فعلاً إنهاء للبنان الذي بات بلا رئيس وبلا حدود وبلا اقتصاد، وبلا قدرة على سحب نفاياته من الطرق، وما يجب الانتباه إليه الآن أنه بلا قيم مشتركة وأذواق وأمزجة قد تعين في حماية ما يمكن حمايته.