الحياة - أثبت الإعلام - ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي - أنه أهم أدوات الجماعات الإرهابية في تنفيذ أنشطتها، بدءاً من كسب التعاطف والإعجاب وإقناع قطاعات من الرأي العام بوجهات نظرها، أو تفكيك المقولات والروايات المضادة، مروراً باستقطاب مجندين جدد إلى صفوفها، وصولاً إلى استخدام هذا الإعلام الجديد سلاحاً حقيقياً في لحظات مصيرية من المعارك الحربية، لضمان الفوز فيها. وقد أشار مراسل صحيفة «ذي غارديان» في القاهرة باتريك كينغسلي إلى الطبيعة «الهوليودية» لبعض الأشرطة التي صورها «داعش»، وإلى استخدام تطبيقات معينة في «تويتر» قبل احتلال مدينة الموصل العراقية عام 2014، أثارت الرعب ولعبت دوراً في تسهيل احتلال «داعش» المدينة.
واستقطب موضوع الإعلام، بشقيه الجديد والتقليدي، واستخدامه في دعم أفكار الإرهاب وجماعاته اهتمام كثير من المعنيين في العالم العربي، مثقفين وكتاباً وإعلاميين وأكاديميين وسياسيين ورجال أمن، وقُدِّم عدد من الجهود النظرية المفيدة، لكن هذه الجهود لا تزال جهوداً موسمية تزيد وتبرز إثر أحداث معينة، وتفتر في أوقات الهدوء التي لا تطول. وهي جهود تفتقر إلى الشمول والإحاطة، ويغيب عن معظمها الجانب التطبيقي العملي، بمعنى وضع الخطط الواضحة والمحددة الخطوات والإجراءات، من أجل التصدي لهذا الخطر. وقد اتخذت شركة «تويتر» أخيراً قراراً بحذف آلاف الحسابات المتصلة بـ «داعش»، لكن هذا الحذف جاء متأخراً بعدما تعاظم الضرر وبعدما حقق الإرهابيون اختراقات كبيرة، كما اقتصر الحذف تقريباً على حسابات «داعش»، بينما تجاهل كثيراً من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة.
ومن الملاحظات المتعلقة بهذه الجهود أيضاً أن كثيراً منها، أو معظمها على الأقل، أعدَّه كتاب وباحثون غربيون. وعلى رغم الانضباط العلمي لهذه الدراسات، فإن الباحثين العرب يظلون أقدر على فهم الخلفيات والسياقات في الخطاب الذي يمكن أن يكون داعماً للإرهاب في الإعلام، لأن هذه الأدبيات تزعم أنها تقوم على نصوص دينية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتراث الفقهي والعقدي للإسلام، وهذا كله مما يحفل بخصوصيات وسياقات ودلالات يُدركها العرب والمسلمون أكثر من غيرهم، ويصعب أن يتأتى امتلاك أدواتها بالشكل المناسب لشخص غير عربي أو مسلم، مهما بلغت ثقافته. ولذا فإن جودة المنهج والدأب على التحليل ودقة الملاحظة، الذي تتسم به الدراسات الغربية، تحتاج إلى خلفية ثقافية عربية وإسلامية قوية لتؤتي أكلها على النحو المرجو.
ومن هنا، فإن من بين الخطوات الأكثر أهمية وإلحاحاً اليوم انتظام الإعلاميين والباحثين العرب في جهود منظمة ومتخصصة عبر المراكز البحثية أو مؤسسات الإعلام الرسمية لمراقبة هذه الظاهرة. تعمل هذه الجهود عبر أربع مراحل متدرجة، هي: الرصد، والتحليل، ووضع برامج العمل المضادة والإجراءات الوقائية، ومتابعة تطبيقها. والمرحلة الأخيرة؛ أي متابعة التطبيق، تفترض أن هذه الجهود ستنشأ بدعم من حكومات ودول عربية لديها سلطة تحويل مخرجات الرصد والتحليل وتوصيات الباحثين والمتخصصين إلى قواعد تلتزم بها وسائل الإعلام، ووضع الخطط وبرامج العمل التي يقترحونها موضع التنفيذ. ومثل هذا العمل يكمل عمل جهات أخرى تقوم بجزء من المهمات التي أشرنا إليها، مثل مركز «صواب»، الذي اشتركت دولة الإمارات والولايات المتحدة الأميركية في تأسيسه.
في شكل مبدئي، هناك ثلاثة مستويات من الدعم الذي تحصل عليه أفكار الإرهاب وجماعاته من وسائل الإعلام، التقليدي منها والجديد، يتمثل المستوى الأول بالوسائل التابعة مباشرة لجماعات إرهابية، والمستوى الثاني هو مستوى الوسائل التي تدعم أشكالاً من الفكر المتشدد، أو الجماعات التي تبرر الإرهاب أو تروج لمنطلقاته وأسسه الفكرية، أو حتى تُهوِّن من شأنه وتهيئ المناخ لجذب الأنصار والمتعاطفين معه. ولعل ما قدمته قناة «الجزيرة» من تبرير لأسامة بن لادن ومن دعم لـ «الإخوان المسلمين»، وما منحته من فسحة إعلامية لبعض التيارات الإسلامية المتشددة، خير مثال على هذه الوسائل. والمستوى الثالث يتعلق بالأخطاء الناجمة عن نقص المهارات اللازمة في التعامل مع ما يُنشر ويُبث من مواد عن الإرهاب، بالشكل الذي يجعل هذه المواد تتحول، من دون قصد، إلى دعاية مجانية للإرهاب فكراً وممارسة، تزيد في جاذبيته وتقوي جانبه، حتى لو كانت النيات طيبة!.
ولكلٍّ من هذه المستويات أساليب لاكتشافه ومواجهته، فمن الضروري، بالنسبة إلى المستوى الأول، مسح وتقويم كل ما هو متاح من نشرات أو مجلات أو بيانات أو مواقع أو تقنيات جديدة تستخدمها الجماعات الإرهابية في بداية ظهورها، وتحديد الأهداف المحتملة لها، وجوانب قوتها وجوانب ضعفها، ومن ثم وضع الخطط لمواجهتها في وقت مبكر. كما يمكن تحديد ملامح الخطاب الديني والفقهي المُستخدم، وأبرز الملامح الملائمة لخطاب ديني معتدل يفند خطاب الإرهاب ويكشف زيفه وتهافته.
أما المستوى الثاني، أي الإعلام المتعاطف مع الإرهاب من طرف خفي لأهداف سياسية غالباً، سواء أكان ذلك بدعم جماعات متشددة تخفي علاقاتها بالإرهاب، أم الترويج لخطاب الكراهية وتوفير منبر لأصحاب الرؤى المتشددة والمتطرفة، الذين ينكرون الإرهاب لفظاً ويدعمونه واقعاً، فإن دور هذه الجهود يتمثل بالرصد الدقيق للممارسات المستترة الداعمة للإرهاب وتوثيقها، وإصدار تقارير تفصيلية في شأنها توضح للرأي العام خطورتها. كما يمكن استخدام أدوات معينة، مثل الملاحقة القضائية أو الضغط الديبلوماسي والشعبي لإيقاف الممارسات الضارة أو تقليصها.
وفيما يخص المستوى الثالث، وهو المترتب على ضعف التأهيل ونقص المهارات، يمكن للباحثين والإعلاميين أن ينطلقوا من الرصد الدقيق والدؤوب لهذا النوع من الأخطاء، وتوثيقه في شكل تفصيلي وكامل، وبيان الأخطاء والمزالق الفنية التي وقعت، والتأصيل لها، ومخاطبة الجهات التي وقعت فيها مثل تلك الأخطاء. كذلك يمكن نشر تقارير دورية، والتأكد من وصولها إلى المؤسسات الإعلامية عبر العالم العربي، وإتاحتها للإعلاميين وللجمهور، ليصبح هو نفسه رقيباً.
ومن المهم كذلك توفير التدريب الجيد للإعلاميين الشباب، من خلال دورات تدريبية يتلقون فيها الأسس النظرية للتعامل مع المواد المتعلقة بالإرهاب، وكذلك الالتحاق بورش عمل للتدرب عملياً على طريقة معالجتها وكتابتها، بما يحول بينهم وبين التورط في دعم الإرهاب من حيث لا يشعرون. ولا بد أن يكون هذا النوع من التدريب أساسياً لكل الإعلاميين، الذين يتصل عملهم بموضوع الإرهاب، من خلال المراكز البحثية ومؤسسات الإعلام الرسمية ونقابات الصحافيين والإعلاميين وجمعياتهم.
إن الإرهاب، بوصفه تهديداً لنا، سيستمر عقوداً على الأرجح، وحربنا معه مريرة ومكلفة، لأن ضرباته الغادرة فادحة التأثير والثمن، سياسياً واقتصادياً. وتمثل هذه المبادرات وما يشبهها استثماراً مفيداً في احتواء هذا التهديد والتصدي له، ومهما أنفق عليها من أموال، فإنها ستكون ضئيلة جداً أمام ما يُرجَّح أن يقدمه من فوائد.
ربما من المفترض أن تكون المراكز البحثية العربية وضعت مثل هذه الخطوة ضمن أولوياتها، ولا سيما أن عدداً من هذه المراكز الرئيسة في الوطن العربي بدأ خطوات التنسيق في ما بينه، وظهر ذلك في «تحالف عاصفة الفكر»، الذي جاء بمبادرة من مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والذي عقد اجتماعه الثاني في مملكة البحرين الأسبوع الماضي. والمأمول أن تقوم هذه المراكز بإنشاء مراصد خاصة بها تهتم بتعامل الإعلام مع الإرهاب والفكر المتطرف، والتنسيق في ما بينها للحصول على أقصى فائدة ممكنة. فضلاً على إسهامها في برامج تطوير الإعلاميين وتدريبهم. كما يمكن لمنظمة إقليمية قوية وفاعلة، مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أن تتبنى هذه الجهود وتوفر لها أسباب النجاح من تمويل مع مراعاة ضمان نوع من المرونة في العمل وحرية الحركة، واستخدام دول المجلس ثقلها وسلطاتها في إنفاذ التوصيات ووضع الخطط التي سيقترحها الإعلاميون والباحثون موضع التطبيق.
تهديد الإرهاب تهديد مصيري لنا ولأوطاننا ولمستقبل أبنائنا، ومن الخطأ التقاعس عن أية خطوة على طريق مواجهته ودحره، أو التأخر في التصدي له على أساس من العلم والوعي، وهو ما أعتقد أن «رصد الإرهاب» وتفنيد دعاويه وفضح زيفها يجسده تمام التجسيد.