العرب - قبل بضع سنوات -أظنها ثلاثا أو أربعا- كانت أورنيلا (وهي إعلامية إيطالية تقيم في بيروت) قد واجهتني بسؤال مفاجئ وصريح أيضا: لماذا أنتم كمثقفين عقلانيين وعلمانيين عرب ترفضون التقسيم الطائفي رفضا قاطعا في دول مثل العراق وسوريا واليمن وغيرها حيث التناحر الطائفي والاقتتال المذهبي على أشده؟ أفلا يكون التقسيم الطائفي في هذه الحالات أفضل من حروب أهلية لا أول لها ولا آخر؟ ألا يكون تقسيم الكعكة أرحم بالعباد عندما لا يستطيعون الجلوس على نفس المائدة؟ ألا يكون الانفصال أبغض الحلال حين تفشل المجتمعات في العيش المشترك تحت نفس السقف، أو تعجز عن التعايش كحد أدنى؟ فلماذا نعاند ونكابر وننتظر أن يتعلم بعض الناجين (إن نجا أحد) من بعض الدروس (إن بقيت من دروس)؟ أليس التقسيم أرحم من مشاهد الدماء وصور الأشلاء؟
قلت لها: الولايات المتحدة الأميركية لم تخرج من سنوات الحرب الأهلية بفعل التقسيم، وأسبانيا لم تخرج من سنوات الحرب الأهلية بفعل التقسيم. والتقسيم لم ينه الاحتقان الدائم بين الهند وباكستان والذي يوشك في كل مرة أن يشعل حربا جديدة. رغم ذلك ليس هذا هو جوابي. دعيني أعترف لك بأننا كقوى عقلانية علمانية داخل المجتمعات العربية والإسلامية نرفض التقسيم الطائفي لأسباب سأسردها على النحو التالي:
أولا، لأنّ الدولة الطائفية ليست دولة المواطنة القائمة على أساس حقوق الأفراد وواجباتهم، لكنها دولة النقاء العرقي أو الولاء المذهبي أو الأخوة العقائدية، وهي تؤجج غرائز النصرة والحمية والغيرة وغيرها من غرائز البداوة المعيقة لبناء دولة المواطنة والمؤسسات. بمعنى أن دعاة الطائفية هم خصوم الحداثة السياسية حتى ولو كانوا في أميركا أو في إسرائيل، حيث يراهن اليمين اليهودي على شرق أوسط طائفي تبدو فيه إسرائيل كحالة طبيعية.
ثانيا، لأننا نرى أن معايير العدالة والحق والقانون والواجب يجب أن تتجه وتتطور بنحو توافقي -مبدئيا على الأقل- من الإطار المحلي إلى الأفق الكوني، بل إنها تتجه فعلا وبفعل تطور العقل الأخلاقي نحو الأفق الإنساني الكوني. ثم إن تلك المعايير -التي تتطور باستمرار- تُدرَك بالعقل الإنساني المجرّد، عوض الانفعالات الغرائزية المحلية. وعلى سبيل المثال، إن التوجه نحو تجريم اغتصاب الزوج لزوجته لهو اكتشاف كوني وأخلاقي حديث جدا ولا يزال في بداياته الأولى، وهو يدرك بالعقل الأخلاقي المجرد بدل غرائز الذكورة الأبوية والغيرة البدائية والقوامة الجنسية. في حين أن الدولة الطائفية تجعل قيم العدالة والحق والقانون والواجب خارج المعايير الكونية والعقلية، أي أنها تكبّل العقل الأخلاقي، سواء لدى المشرّع أو لدى الرأي العام، فتحرمه من إمكانية التطور، وتمنعه في آخر التحليل من فرصة التحرر من الأوهام الثقافية.
ثالثا، الدولة الطائفية تمجد القانون الطائفي والذي هو أقرب إلى الأعراف المتوارثة، وتمجد القيم الطائفية والتي هي أقرب إلى العادات التقليدية، وتمجد الحق الطائفي والذي هو أقرب إلى الأساطير الأهلية، ما يمثل لبعض القوى فرصة للتنصل من حقوق الإنسان الكونية والإفلات من العدالة الدولية ومن ثمة النكوص إلى الدولة العصبية، لا سيما بالنسبة إلى مجتمعاتنا التي لم تدخل عتبة الحداثة السياسية.
رابعا، لأن العولمة وثورات التواصل والمواصلات الجارية والمواثيق الدولية الكونية قد حرمت كل الجماعات الإثنية والعقائدية من إمكانية أن تعيش انغلاقها على نفسها في وئام داخلي وسلام خارجي.
خامسا، لأنّ المحاصصة الطائفية نفسها -إذا تفادينا التقسيم- كما الأمر في لبنان، تعيد إنتاج التّطييف داخل الطائفة الواحدة، فتظهر سلالات وراثية ترث رعاياها، وسلالات ترث أتباعها، وسلالات ترث بعض العلاقات الدولية، وهكذا دواليك. وبهذا النحو ننتقل من آفة التقسيم الطائفي للدولة، إلى آفة التوزيع الطائفي للدولة.
سادسا، الطابع الطائفي للدّولة يمزق الفضاء العمومي الذي يُفترض أنه حاضنة الحوار المفتوح بين مواطنين يمتلكون إرادات حرة ومستقلة عن الجماعات السلالية التي انحدروا منها، وعن الولاءات العشائرية التي نشأوا عليها، وعن روابط الدم التي ارتبطوا بها. سابعا وليس أخيرا، الدّولة الطائفية في القرن الحادي والعشرين، زمن العولمة والمجتمعات المفتوحة والانكشاف الشامل، مجرّد وهم من أوهام الأزمنة البائدة، غير أنه وهم سيكلف الإصرار عليه المزيد من العنف والخراب والدمار.