العرب - المشهد في تونس يكاد يتحوّل إلى طلسم ملتبس للمهتمين به من التونسيين وغيرهم. والالتباس متعدّد وفيه ما هو جوهري رئيسي وما هو ثانوي تابع. ويظل الالتباس الأم المولد لبقية المشكلات هو ذاك المتأتي من العلاقة بين السلطة والدولة، إذ كل سلطة تتشكل في تونس تسطو على الدولة بشكل فاضح وتتكلم باسمها وتحتكرها، حتى وإن كانت مؤقتة وعابرة بسرعة مثل حكومتي محمد الغنوشي وحكومة الباجي قائد السبسي سنة 2011 أو حكومة مهدي جمعة سنة 2014.
من الالتباسات المتولدة عن هذه الإشكالية ما يتعلق بصورة المعارضة في تونس ولا سيما الممثلة منها في مجلس نواب الشعب. فالدستور ضمن لها مواقعها وأدوارها، بينما السلطة القائمة تعاديها وتتحرش بها باستمرار وتعرقل أداءها لمهامها. والأخطر من كل هذا أن السلطة القائمة تعتبرها خارج الدولة، رغم أنها جزء من السلطة التشريعية ممثلة في مجلس نواب الشعب.
فالسلطة في تونس تخالف كل الأعراف والقوانين الدولية وتبيح لأعوانها تعطيل مهام نواب المعارضة، ولشرطتها الاعتداء عليهم بالعنف المادي واللفظي والتهديد بالسجن، وهو ما حصل مع نائبي الجبهة الشعبية عمار عمروسية والجيلاني الهمامي الأسبوع الماضي، والنائب عبدالمؤمن بلعانس مطلع الأسبوع الجاري.
الدولة لكل مواطنيها من كان منهم في السلطة أو معها، ومن كان منهم خارجها أو معارضا لها. هذا هو الأصل الذي انحرفت عنه سلطة الائتلاف الرباعي القائمة في تونس اليوم. وأن تكون الدولة لكل أبنائها يعني أن تفي بالتزاماتها. أما أن تخلف الدولة بتعهداتها تجاه جزء من أبنائها فهذا لا يليق بسلطة تقدم نفسها على أنها المؤتمنة على الدولة والثورة والدستور.
بدل العهد تقدّم السلطة العنف لشعبها. هذا ما حصل في جزيرة قرقنة وفي محافظة الكاف وفي ملف المعطلين عن العمل المفروزين أمنيا. السلطة تقدم أسوأ أنواع العنف ألا وهو العنف الأعمى الذي لا يميّز. وقد كان ضحية العنف نواب في البرلمان كما أسلفنا وشباب معطل بسبب الفرز الأمني من الجنسين، ونقابيون في مختلف الهياكل، إذ من بين المعتدى عليهم في الكاف الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بالجهة.
الاتحاد العام التونسي للشغل يكرّمه العالم كله، بينما تعتدي السلطة في تونس على قيادييه بالعنف الشديد. السلطة القائمة كانت تراود الاتحاد متوهمة أن جائزة نوبل للسلام ستليّن مواقفه من القضايا المركزية للشعب التونسي. وهذا لم يحدث إذ لم يغادر النقابيون الساحات. ولا يتردد الاتحاد في التهديد بالشوارع كلما اقتضى الأمر ذلك ولا سيما في قضية المساس بجرايات المتقاعدين أو التمديد في سنّ التقاعد.
فهل تتوعّد السلطة التونسيين بعودة دولة القمع؟ لو افترضنا ذلك، فإنه لا يدلّ إلا على قصر نظر وسوء تقدير، فمن يمارس عليهم العنف ليسوا إلا من تصدّى لعنف الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وقمعه من اليساريين والنقابيين وأصرّوا على البقاء في وطنهم ولم يختاروا منافي الرفاه في باريس ولندن. من يتعرضون لعنف السلطة اليوم في تونس لم يهابوا بن علي وسجونه، ولم يتراجعوا عن مبادئهم ومواقفهم فهل سيخافون من سلطة القمع المتشكلة بعد انتخابات 2014 في تونس؟
فأيّ صورة رديئة تُلبس بها السلطةُ القائمة الدولةَ في تونس؟ هذه الصورة المخيبة تزرع الريبة والشك والخوف في صفوف مواطنيها. فهل هناك ما هو أخطر من أن يفقد المواطنون ثقتهم في دولتهم؟ كان الأحرى بالسلطة القائمة أن تفرض احترامها على مواطنيها حين تلتزم بتعهداتها، لا أن تزيد في توسيع السجل القمعي الدموي للدولة.
ملف المفروزين أمنيا من أبناء الاتحاد العام لطلبة تونس المعطلين عن العمل فيه قرارات برلمانية واتفاقات ممضاة من قبل الحكومة ولجنة برلمانية واتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل والاتحاد العام لطلبة تونس. وهذه الاتفاقات تمّ الشروع في تنفيذها وبلغت جلسات الاستماع مراحل متقدمة، ولكنها توقفت فجأة. وليس هناك من سبب إلا أن السلطة تتعامل تعاملا سياسيا مع هذا الملف، باعتبار أن ضحايا الفرز الأمني هم من اليساريين وأن الجبهة الشعبية والاتحاد العام التونسي للشغل هما الطرفان المتبنيان لهذا الملف.
يعني ذلك أن السلطة تستعمل هذا الملف للمساومة والضغط على الجبهـة والاتحاد سعيا وراء تنازلات في ملفـات أخرى. وهذا غريـب فكيـف تسمـح سلطـة تـريد أن تنال رضا الشعـب وهي تسـاومه بقضـاياه العـادلة ومطالبه الشرعية الدستورية؟ فلو نفـذت التـزامـاتها لكـانت تنـال حظـا أوفـر مـن التقدير. أما لو نفذتها الآن، وستفعل حتما مجبرة، فإنها لن تنال شيئا، وإنما سيكون ذلك نتيجة نضال واستعادة حق سليب. ثنائية السلطة والدولة تعود إلى ذاك الالتباس الذي غلب عليها منذ العهد البورقيبي إلى اليوم. وذلك ناتج أساسا عن الفقر المفهومي وتعثر التنظير الفلسفي لهذه الإشكالية. فبقي الغالب على ماسك السلطة السيطرة على الدولة ومقدراتها لا إدارتها والإشراف على توزيعها. فليست الدولة ملكا للسلطة، إذ أن السلطة عابرة متحوّلة بينما الدولة مقيمة ثابتة.
الدولة التونسية ليست ملكا لتحالف النداء والنهضة والباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. فهذا الإيهام خطير. وللرجلين وحزبيهما أن يتفقا ما شاء لهما الاتفاق، ولكن تبقى الدولة التونسية ملكا لكل التـونسيين تتساوى فيها الفـرص والحظـوظ بشرطـين همـا المـواطنة والكفـاءة، لا الانتماء الحزبي ولا العقدي ولا سواهما.
أما ما يحدث اليوم فهو أن الإسلاميين أكلوا الجمل بما حمل، واستحوذوا على مقدّرات الدولة خلال سنتي 2012 و2013 في عهد حكم الترويكا فأخذوا الانتدابات في الوظيفة العمومية دون كفاءات ونالوا التعويضات والترقيات الاستثنائية وأنهكوا الدولـة. وعاد اليوم الدستوريون والتجمعيون ليعيد لهم نداء تونس ما استعاده منهم الشعب التونسي أي الدولة ومقدّراتها. أما بقية أبناء الشعب الذين دفعوا شبابهم ومستقبلهم من أجل وطنهم فالقمع والعنف نصيبهم. هذه ليست دولة عادلة. وما يفعله التحالف الندائي النهضوي هو السطو على الدولة وزرع الفرقة بين أبناء الشعب الواحد والتمييز على أساس الانتماء. وهذا ينذر بالخطر ويهدّد الدولة بالتناحر بسبب قصر نظر السلطة القائمة وسوء إدارتها للشأن العام وافتقارها للعدل والمساواة واحترام القانون.