العرب - في لقائه الأخير مع أعرق الشبكات الإخبارية الدولية، تحدث الأمير محمد بن سلمان باستفاضة عن رؤيته لمستقبل البلاد، وأثارت المقابلة تفاعلات جيدة على صعيد الداخل والخارج. وقبل التطرق للتفاصيل، من الواجب أن نلتفت إلى ملاحظتين، الأولى أن الأمير تحدث غير مرة لوسائل إعلام أجنبية، وهذا منطقي ومطلوب، والمفترض أن يستكمل لقاءاته بالحديث إلى وسائل الإعلام المحلية، فمنذ عقدين تقريبا، درجت القيادة السعودية على مقاطعة الإعلام المحلي ميمّمة وجهها إلى الإعلام الخارجي، ولا أعرف أسباب استحالة الجمع بين الحسنيين، ولنا في الملك فهد -رحمه الله- أسوة حسنة.
أما الملاحظة الثانية -وهي الأهم- موضوعها الأرقام الكبيرة التي يطلقها ولي ولي العهد في مقابلاته وتصريحاته، وحتى إن كانت هذه الأرقام صحيحة علميا، فالأولى أن نتحفّظ تحسبا لأيّ طارئ أو خطأ تقدير، فالإفصاح عن سقف آمال منخفض ثم تجاوزه أفضل من إعلان سقف مرتفع ثم النكوص عنه.
حين تولى الملك سلمان مقاليد الحكم، أشاع أعداء البلاد من حزبيي الداخل والخارج أحاديث بأن العهد الملكي الجديد انقلاب على سابقه، وبدت الصورة غائمة ومشوّشة، لكن توالي الأيام أثبت تهافت هذه الادعاءات، والأمثلة عصية على الحصر، زيارة الملك سلمان التاريخية إلى مصر وما شملها من اجتماع الملك ببابا الأقباط ودعم الأزهر، وقرار تنظيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحديث ولي ولي العهد عن حقوق المرأة، وليس آخرا عملية عاصفة الحزم التي شكلت امتدادا سياسيا لدخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين قبل سنوات، أما تغيير الأشخاص، مهما كان التحفظ على بعضهم، فهذا من حق كل إدارة.
تحدث الأمير في مقابلته عن مكانة المرأة في الدين الإسلامي، وأعطى إشارات صريحة لموقف إيجابي لقيادة المرأة للسيارة. وألمح إلى تجاوز بعض الأنظمة التي تقيّد استقلال المرأة وحركتها. وهنا أعود بالذاكرة سنوات إلى الوراء، حيث جمعتني الصدفة في بيروت بمسؤول عمل في الظل زمن الملك عبدالله وغادر منصبه قبل وفاة الملك، وطرحت عليه سؤالا كان يؤرّق النخب في ذلك الوقت، هل سيستمر نهج الملك عبدالله بعد رحيله أم سيزول بوفاته. فأجاب مسؤول الظل -في جلسة حضرها مفكران سعوديان بارزان- إن سياسة الانفتاح والإصلاح التي دشنها الملك عبدالله ليست خيارا مؤدلجا، بل هي ضرورة اقتصادية بالدرجة الأولى، يوما ما سيزول النفط أو سيفقد قيمته، ولا يمكن تعويض ذلك إلا برفع الإنتاجية الوطنية، والسياسات المحافظة تعطل نصف المجتمع (المرأة) ولا تستثمر النصف الآخر على الوجه الأنسب، كما أنها تخدش جاذبية الاستثمار. وإلى زوال عصر النفط فإن الحكومة مطالبة بمعالجة أزمتين عاصفتين، البطالة والفقر، وكل الحلول كامنة في تطوير الأنظمة والمجتمع وسوق العمل، وبالتالي لا خيار أمام أيّ ملك إلاّ الانفتاح والإصلاح.
كان اللافت لي في المقابلة الأخيرة الود الواضح الذي يكنه ولي ولي العهد للملك الراحل، وقصة العلاقة العميقة التي وحدت بين جيلين متباعدين اجتمعا على الثقة والإيمان بالدولة وبتحديثها.
مر عام وأكثر على رحيل الملك المحبوب عبدالله بن عبدالعزيز، وما جرى في هذا العام يوازي أحداث أعوام عدة، عالم يتغير بسيره إلى واقع جديد ومستقبل مجهول، وبداية المتغيرات تدشنها منطقتنا نحن، لقد وجدنا أنفسنا في وحدة فوارة، الحلفاء الأميركيون أداروا ظهرهم للمنطقة تمهيدا للانسحاب الكبير، واختاروا توجيه قبلة المغادرة لخصومنا الإيرانيين، والدول من حولنا تتداعى، والإرهاب يتمدد بلا رادع، والنفط يخسر وهجه وقيمته كلما انخفض سعره، فعليا لم يبق غيرنا ليواجه كل هذه الحقائق.
هذه النتائج التي نراها اليوم انطلقت في يوم 11 سبتمبر 2001، اللحظة التي غيّرت العالم، وآنذاك تعامل الملك عبدالله بن عبدالعزيز بحكمة وبشجاعة مع الأحداث واحدا تلو آخر إلى لحظة الربيع العربي، ولولا الخطوات التي اتخذها ما تجاوزنا كل هذه التحديات إلى مناعة اللحظة الراهنة، ولولا مبادراته الخلاقة لما تمكّن الحكم السعودي اليوم من تدشين مراحل جديدة، فلولا وقفة الملك عبدالله مع ثورة 30 يونيو لكان الرئيس الإيراني هو ضيف مصر الكبير، ولولا مبادرة الملك عبدالله لحوار الأديان وزيارته لبابا الفاتيكان لكان لقاء الملك سلمان مع بابا الأقباط ضربا من الوهم، ولولا الفسحة الهائلة التي أتاحها الملك عبدالله للمرأة السعودية المتوجة بإدخالها لمجلس الشورى وللمجالس البلدية لكان حديث ولي ولي العهد عن قضايا المرأة انتحارا سياسيا، كما أن مشروع الملك عبدالله للإصلاح هو بلا شك أحد روافد برنامج التحول الوطني الذي يفترض أن يعلن عنه خلال أيام.
أتذكر زمنا سابقا كان الملك عبدالله منفردا يصيح في كوكب الأرض، احذروا الإرهاب، واليوم يردد الجميع: كان عبدالله على حق. لقد قدم الملك عبدالله الكثير لبلاده ولأمته، وحين أرى مؤشرات التغيير في المملكة ألمح مخيلته خلف كل حدث، وكأن الذي غادرنا قبل نحو عام ما زال ينادي “لا تنسوني من الدعاء”، رحم الله الملك عبدالله وأسكنه فسيح جناته، وأعان خلفه الملك سلمان على حمل ثقيل ومستقبل طموح.