الحياة - مدهشة «رؤية 2030» التي أعلنت عنها السعودية هذا الأسبوع - لأنها مشروع نهضة مبني على العلمية والبراغماتية وورشة عمل جماعي لاستبدال أنماط التأميم والريعية والإملاء بنهج ليبرالي اقتصادي واجتماعي وبفلسفة مكافأة الإبداع والحق بالتفوق والمساواة في المواطنة والشراكة في صنع القرار. هذه الرؤية أتت لتؤسس البنية التحتية اللازمة لإحداث نقلة تاريخية تهز السعودية، وهي تأتي بعكس ما أتى به «الربيع العربي» عندما أحدث اهتزازاً بلا أسس ذات ديمومة. هذه الرؤية وآليات تنفيذها ليست ثورة أو انقلاباً - كما جرت عليه العادة في المنطقة العربية عندما أتى إليها التغيير عبر الأيديولوجية والغضب والانتقام. إنها وثبة تطورية مدروسة علمياً لها جهاز تنفيذي كان لطرحها وقع المفاجأة على المواطن السعودي والعالم. البعض تلقاها بخوف ومقاومة للتغيير ولسلبه امتيازات أغدقتها عليه الرعاية الأبوية للدولة Wellfare State. والبعض الآخر وجد نفسه في أحضان التفاعل مع الحداثة والاستنارة والإصلاح التنموي متحمساً بفرح للمشاركة في مشروع وطني وكأنه استفاق إلى تحقيق حلم جميل.
فلقد أسدل الإعلان عن «رؤية 2030» الستار على عهد التدريج في السعودية بكل هدوء، وبكل الاحترام لتلك الحقبة من تاريخ السعودية. ولقد أقلعت الرؤية، لدى الإعلان عنها، بقفزات نوعية فورية أطلقت ميثاقاً جديداً قوامه المشاركة في التجاوب مع التحولات المستقبلية، بالإبداع والمبادرة، لاحتضان التكنولوجيا وما لها من تأثير على الطب والتعليم والزراعة والبطالة ورأس المال البشري. فما حدث هذا الأسبوع في السعودية هو اعتراف بضرورة التطوير والتغيير ومواكبة الثورة التكنولوجية بفلسفة جديدة لا سابقة لها في السعودية. وهذا الحدث المهم له أبعاد إقليمية غير معتادة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. فالسعودية تبني نظاماً سياسياً إقليمياً جريئاً واضح المعالم، وليبرالي التوجهات متأثراً بالقيم التراثية. سيتلقى ممانعة المحافظين والمستفيدين من ثقافة الاسترخاء، إنما شباب المنطقة الخليجية والعربية سيستجيبون لنداء المستقبل الآتي إليهم عبر خريطة الإبداع التي أطلقتها مبادرة «رؤية 2030» بوعي وحيوية.
شباب منطقة الخليج أكثر حظاً من شباب الشرق الأوسط أو المغرب العربي، ليس فقط بسبب وفرة الموارد الطبيعية وإنما أيضاً بسبب ما يشهده بعض الدول الخليجية من ثورات حكومية تطورية هادئة بعيدة من صخب الانقلابات الشعبوية.
دولة الإمارات كانت البادئة بالتفكير الرؤيوي وباتخاذ قياداتها دوراً طليعياً دب الحماس في الأجيال وزرع فيهم التشوق إلى الاستقرار والسعادة. القيادات الإماراتية كانت الأولى إلى التغريد ترحيباً بالخطة التي أعلن عنها الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي ولي العهد ووزير الدفاع ورئيس المجلس الاقتصادي والتنموي المسؤول عن خطة ورؤية «السعودية 2030». حاكم دبي ونائب رئيس الإمارات ورئيس مجلس الوزراء، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، سبّاق إلى التجددية، وهو رأى أن الرؤية «مليئة بالطموح والأمل للمملكة وللمنطقة... وقيادة شابة ستفاجئ العالم بإنجازاتها»، وأنها تطلق «تفاؤلاً بتجديد حضاري لأمتنا العربية نحو استغلال طاقاتها ومواردها وشبابها».
والشيخ محمد بن راشد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، اعتبر الرؤية «برنامجاً طموحاً من ملك الحزم». ووصف وزير الخارجية عبدالله بن زايد المشروع بأنه «خطوة جبارة ليس للسعودية فقط، وإنما للمنطقة نحو المزيد من الرفعة والإنجاز». وقال إن «التكامل مع السعودية نهجنا» وإن «البعض ينشر الإرهاب والفوضى، أما نحن، وبقيادة المملكة الحكيمة، نهجنا البناء والسعادة». هذا الاحتفاء بحقنة الطمأنينة لا يعني أن دول الخليج في رخاء مضمون ضمن فقاعة تجعلهم بمعزل عما يحدث في جيرتهم الآنية أو في المنطقة العربية والشرق الأوسط. بل إن ضمن الجديد في السياسة الخليجية غير المعتادة، ما أقدمت عليه السعودية عندما قادت «التحالف العربي» في «عاصفة الحزم» في اليمن، وما تمسكت به من مواقف في المسألة السورية، وما اتخذته من خطوات اقتصادية نحو مصر. في موضوع اليمن، ترى القيادة السعودية أن تدخلها العسكري كان ضرورة في سياسة استباقية مدروسة لحصر الحوثيين في اليمن بدلاً من تمددهم إلى السعودية، ومن أجل شن الحرب عليهم في الساحة اليمنية وليس في الساحة السعودية. هذا التفكير يشبه التفكير الأميركي في العراق والروسي في سورية، وقوامه خوض الحروب «هناك»، وليس «هنا» في الأراضي الروسية أو الأميركية أو السعودية.
ترى القيادة السعودية أيضاً أنها أنجزت كثيراً بسحب السودان وجيبوتي من أحضان إيران ولجأت بذلك إلى شراكات استثمارية وليس إلى مجرد التفاهمات السياسية، ففي «الرؤية السعودية 2030»، على سبيل المثال، هناك اعتماد بجزء منها على الاستثمار في القطاع الزراعي في السودان في نقلة نوعية نموذجية ضرورية في بناء التحالفات العملية. إنها البراغماتية بأوجه من وجوهها العديدة والتي تميز الرؤية التي يقوم على إطلاقها وتنفيذها الأمير محمد بن سلمان. فالسودان في حاجة إلى رؤوس الأموال السعودية والتقنية الزراعية والتطور العلمي الزراعي لزيادة الإنتاج. وتكون السعودية مستفيدة بامتياز من الموارد الطبيعية في السودان المتمثلة في الأراضي الشاسعة والخصبة وفي وفرة المياه. وهذا التعاون يأتي أيضاً ليخدم أهداف الأمن الغذائي. إنه معادلة ربح - ربح ببراغماتية اقتصادية وبرؤية سياسية أساسها توسيع حلقة التحالفات، لا سيما مع دول كانت قد اجتذبتها إيران. التصدي للتوسع الإيراني كما تراه القيادة السعودية قرار حازم لن تتراجع عنه، إلا أنها ستتبنى سياسات غير تقليدية في تنفيذ التصدي. المهم للقيادة السعودية هو حصر الحروب خارج المملكة مهما تطلب الأمر.
في الحرب السورية، هناك من يدعو إلى تبني استراتيجية عسكرية تدعم الاستراتيجية السياسية نحو سورية بما يشبه ما يفعله محور روسيا- إيران- «حزب الله». يدعون إلى تزويد المعارضة السورية المسلحة بسلاح صيني مكدّس في المستودعات الخليجية -تجنباً للفيتو الأميركية- وهو بمعظمه صواريخ مضادة للطائرات السورية وليس للطائرات الروسية التي تحلّق بأعلى مما تصيبها هذه الصواريخ.
التحدي الرئيس لمثل هذه الدعوة أن لا ثقة بأمرين رئيسيين تتطلبهما استراتيجية تمتين اليد السياسية باليد العسكرية ميدانياً، هما: الزخم والاستدامة، فإذا توافر هذان العنصران يمكن إحداث تحوّل جذري في المعادلات التفاوضية التي ما زالت تتأرجح بعيداً من الاستكمال. إنما سواء انتهت المفاوضات بتسوية، أو طالت الحرب في سورية، لن يكون ممكناً لها أو للبنان أو للعراق أو لليمن وليبيا وتونس ومصر، التظاهر بأنها لن تتأثر بما طرأ على النظام السياسي الإقليمي بقرار سعودي. ولن تتمكن إيران من تجاهل التحدي الآتي إليها من السعودية وعنوانه الانفتاح السياسي والخصخصة الاقتصادية والتنوع الاجتماعي. فهذه فلسفة جديدة لم تكن طهران تتوقعها من الرياض. فقد اختلف الأمر، ما سيتطلب من قيادات إيران إعادة تقويم سياستها والتعامل مع السعودية الليبرالية الجديدة. وهذا سينعكس في سياسات إقليمية ممتدة من العراق إلى سورية إلى اليمن إلى لبنان.
فليس ممكناً أن تبقى دول الشرق الأوسط خارج التأثر بالنظام الإقليمي الذي أطلقته السعودية، والذي سيكتمل بالتغيير في هذه الدول الشرق أوسطية وتأثرها بنظام ليبرالي تتأثر به كل الدول الخليجية ومصر وسيؤدي إلى حجم ضخم في التجارة بين الخليج والمشرق والمغرب، وإلى استثمارات كبرى، وإلى إيلاء القطاع الخاص دوراً سياسياً واقتصادياً غير مسبوق. وكل ذلك في نهضة على مستوى كامل القطاعات من الصناعة إلى الزراعة إلى الإدارة إلى الصحة إلى التعليم ومعالجة البطالة وإطلاق الخصخصة وإعادة تنظيم الوزارات ووضع ميكانيزم لمراقبة أدائها والمحاسبة على الأداء.
حدثت ثورة هادئة في العلاقات بين القطاع الخاص والوزارات طبقاً لرؤية 2030، إذ إن النفط خرج بقرار حكومي من قبضة الحكومة وانحسرت صلاحيات وزارة النفط لمصلحة صلاحيات مجلس الإدارة ورئاسة مجلس إدارة شركة «أرامكو». هذا ليس أمراً عابراً، لا سيما أن ثروة النفط في منطقة الخليج هي «بضاعة استراتيجية وليست بضاعة اعتيادية» وفق خليجي مخضرم أضاف أن النفط كان له دوماً «المقام الفريد الذي تتمتع به دول الخليج باعتمادها على السلعة النادرة هذه». فهذه أول مرة تدير فيها النفط في الخليج شركة وليس حكومة. وللمرة الأولى في تاريخ السعودية، اتُخذ قرار خصخصة جزء من الثروة الوطنية للبورصة المحلية والعالمية. وذلك من خلال طرح 5 في المئة من أسهم شركة «أرامكو» السعودية للاكتتاب - والكلام يصب في خانة أكثر من 2 تريليون دولار أميركي. وكما قال ولي ولي العهد أن مجرد طرح 1 في المئة من أسهم «أرامكو» سيكون «أكبر اكتتاب في تاريخ الكرة الأرضية» وأن من فوائد هذا الطرح، وفق قوله، أن تصبح «أرامكو» ذات «شفافية» وتحت «رقابة بنوك سعودية»، وعالمية.
أما الصندوق السيادي الذي سيجعل مصدر إيرادات الحكومة من الاستثمارات وليس من النفط، فإنه بدوره نتيجة الاقتناع بأنه كانت هناك حالة «إدمان نفطية» وفق تعبير الأمير محمد بن سلمان، عطلت التنمية. هذا الصندوق سيسطر على 10 في المئة من القدرة الاستثمارية في العالم ولن تديره شركة «أرامكو».
لكن الاستثمار والإصلاح الاقتصادي ليس الوحيد في النقلة النوعية في الرؤية السعودية، إذ إنها تناولت أيضاً تحسين وضع المقيمين الأجانب والاستفادة منهم اقتصادياً، وتناولت أيضاً تعزيز دور المرأة السعودية في القوى العاملة مع رفع مشاركتها في سوق العمل لـ 22 إلى 30 في المئة. هذه قفزات كبرى ليست ضمن المفاهيم المعتادة تقليدياً والقائمة على التدرّج. إنها ثورة هادئة براغماتية النهج والآليات نحو جديد شيّق في المنطقة العربية.