2016-05-02 

ملاحظات صغيرة على رؤية كبيرة

عبدالله ناصر العتيبي

الحياة - الجميل في رؤية السعودية 2030 أنها جاءت في الوقت المناسب. لا قبل ولا بعد. جاءت بعد عقود طويلة من الإدارة الرعوية والأبوية المعتمدة على اقتصاد ريعي غير منتج يتناسب مع طبيعة المجتمعات السعودية التي كانت تحتاج إلى عمليات اقتصادية واجتماعية ونفسية متتابعة تسهم في تثبيت تآلف القلوب. وجاءت قبل تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية محتملة لا يمكن معها الاستمرار في إدارة الدولة بالطريقة السابقة نفسها.

 

جاءت الرؤية طموحة، وحق لها ذلك، فعرابها محمد بن سلمان وجمهورها مواطنون مؤمنون بسنة التغيير. محمد بن سلمان القائد الشاب من ناحية، والمواطنون الواثقون بحسن تدبير قيادتهم على مدى عقود من ناحية مقابلة. حق لهذه الرؤية أن تكون طموحة في بلد عرف كيف يسير في حقول الألغام وينجو بشعبه، فيما النخب السياسية من حولنا ومنذ عشرات السنين تتخبط بمقدرات بلدانها مرة باسم التقدمية، ومرة باسم محاربة الاستعمار، ومرة باسم الممانعة والمقاومة.

 

قرأت صفحات رؤية السعودية 2030 ووجدتها دستوراً مرحلياً يتناول مستقبل السعودية القريب، ولأنني مشغول أكثر بمستقبل السعودية البعيد فسأكتب في ما يأتي بعض النقاط التي أتمنى في المستقبل القريب أن تضاف إلى هذه الرؤية لنتمكن من مواجهة التحديات القريبة والبعيدة بثبات.

 

أولاً: لم تتحدث الرؤية في شكل واضح عن تمدين المجتمعات المحلية ولم تتناول كيفية إرساء مفاهيم منظمات المجتمع المدني في بلاد تعودت على خط اتصال واحد لسنوات طويلة. الرؤية اكتفت فقط بلمحة صغيرة عن «مواصلة تطوير الأنظمة واللوائح اللازمة لتمكين مؤسسات المجتمع المدني»، مغفلةً إجمال التفصيل كما فعلت في مسائل البطالة والترفيه والدخل غير النفطي وغيرها. سعودية المستقبل في حاجة ماسة إلى بناء منصة متكاملة ومتماسكة من مؤسسات المجتمع المدني من أجل الحفاظ على بنية المجتمع من ناحية وصلابة علاقته مع الدولة من ناحية أخرى. مؤسسات المجتمع المدني في تقديري هي الوسيلة الأنسب والأصلح لنقل المجتمع السعودي من ضفة الاقتصاد الريعي إلى ضفة الاقتصاد المنتج من غير أن يتشوه أو يصطدم بواقع لم يعرفه ولم يعهده، فكما هي وسيلة ضغط على الدولة باسم المواطن، هي أيضاً أداة إقناع للمواطن باسم الدولة.

 

مؤسسات المجتمع المدني المستقلة ذات الوجود القانوني هي عمود توازن بين السلطة والمجتمع، ويخطئ من يظن أنها أداة رقابية موجهة فقط ضد العمل الحكومي. صحيح أن هذا الدور من أهم أدوارها، لكنها بحكم طبيعة بنائها وآلية تكوينها هي أيضاً جهاز رقابي ضد المجتمع نفسه. جهاز قادر على الدوران في شكل تصحيحي بزاوية 180 درجة، الأمر الذي يجعل من رقابة الدولة على المجتمع (وأقصد هنا الرقابة الشرعية) مسألة في غاية السهولة.

 

كما أن مؤسسات المجتمع المدني بتنوعها وازدهارها تعمل كخط حماية للمجتمع من سيطرة تيار معين أو رؤية اجتماعية معينة، أو نخبة ذات محددات وصفات معينة، فمتى ما كانت استقلاليتها مكفولة ومحمية باسم القانون، فإنها ستكون قادرة على صد كل المحاولات التي تهدف إلى خلق مجتمع سيامي متشابه خاضع لرؤية واحدة أو مستعد للخضوع لرؤية واحدة. لماذا هي قادرة على ذلك؟ لأنها برلمان شعبي مفتوح مكون من كل طبقات المجتمع تقريباً.

 

هي أيضاً - خصوصاً نقابات المهن والعمال - ومن منظور عملي بحت، قادرة بمشاركة أجهزة الدولة التنفيذية خلال السنوات الـ15 المقبلة على بناء أسس نظرية، قادرة بدورها على خلق ثقافة عمل ملتزمة، وذلك بحكم مداورة التخصص وتجهيز الاختصاصيين في مكان واحد وظروف واحدة.

 

ثانياً: خلت الرؤية السعودية 2030 من كل ما يشير إلى رحابة الحكم المحلي ونعيم اللامركزية، وأغفلت في شكل واضح الحديث عن مستقبل علاقة المناطق السعودية الـ13 بالعاصمة الرياض. ولم تتناول في أي من أجزائها طبيعة الأسواق الاقتصادية وشروطها في كل منطقة.

 

أظن أن من أهم محفزات التحول الوطني ومسرعاته، إيكال مهمة إدارة المناطق إلى حكومات محلية ذات شخصية مستقلة عن الإدارة المركزية في الرياض، وبصلاحيات تتغير من منطقة إلى أخرى، بحيث يكون هناك هامش من المرونة يسهم في صناعة مجتمعات متصالحة مع نفسها. ما هو ممنوع في الرياض بحكم العادات والتقاليد قد لا يكون ممنوعاً في جدة أو أبها. وما هو من الخطوط الحمر في مكة قد يكون مقبولاً في المجمعة أو شقراء، وبالتالي فإن تفعيل القوانين الاجتماعية بمسطرة واحدة على مجتمعات متمايزة ثقافياً وحضارياً هو نوع من الحلول الموقتة التي تخضع الجميع من أجل القانون نفسه، فيما المطلوب نحت وسن القانون من أجل المجتمع.

 

أيضاً القوانين المتعلقة بالحرف والصناعات والأعمال لا ينبغي أن تكون نسخاً من بعضها في مناطق المملكة كافة. القوانين المشددة في منطقة ما تجاه صناعة ما قد لا تكون مناسبة في منطقة أخرى. والتسهيلات التي يحصل عليها المستثمرون في منطقة ما قد يكون تطبيقها عبثياً وضاراً في منطقة أخرى.

 

هناك قوانين عامة لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها في مناطق المملكة كافة، لكن هناك قوانين خاصة يمكن لكل منطقة أن تطبقها في حيزها الخاص بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة في الحكومة المركزية.

 

كذلك فإن تعزيز فكرة اقتصاديات المناطق، وإدخال جزء منها في موازنة المنطقة، سيسهم بلا أدنى شك في تحريك عجلة الاقتصاد المنتج في كل عموم المملكة، وسيدعم بشكل أو بآخر الوحدوية الكلية لدولة شرُفت بالتوحيد على يد مؤسسها وبانيها الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه.

 

تُحدد السوق الاقتصادية الخاصة في كل منطقة، وتتولى الدولة تنظيمها ودعمها للوصول إلى حال اقتصادية متبادلة المنافع. السياحة الدينية في منطقة مكة المكرمة والصناعات الملحقة بالنفط في المنطقة الشرقية وصناعة التمور أو النسيج في الأحساء وصناعة السياحة العائلية في عسير والباحة وغيرها. والمناطق الفقيرة اقتصادياً تفعّل فيها الدولة صناعة خاصة بها تسمها وتميزها عن غيرها مثل صناعة المعرفة والإعلام في منطقة الحدود الشمالية وصناعة إعادة التصدير في منطقة تبوك وغيرها.

 

ثالثاً: خلت الرؤية السعودية 2030 كذلك من أي إشارة إلى شكل مجلس الشورى في الـ15 سنة المقبلة، ولم تشر بنود الرؤية إلى إصلاحات مستقبلية في المؤسسة التشريعية، وكأن الحياة البرلمانية في المملكة ليست في حاجة إلى ترقية وتطوير.

 

الاقتصاد المزدهر والمجتمع الحيوي والوطن الطموح تعتمد جميعها على مجلس برلماني منتخب يحمل أصوات الناس في شتى مناطق المملكة، وأظن أن العملية الانتخابية التي تحدثت عنها في مقالات سابقة والمتمثلة بإعطاء حق الترشح لكل من يمثل دائرة مهنية اختصاصية، بحيث لا يصوت له إلا من ينتمي إلى دائرته الاختصاصية ذاتها أو يتقاطع مع أعمالها أو تتماس مصالحه الشخصية مع محددات وصفها، هي الطريقة الانتخابية الأنسب للمجتمع السعودي القبائلي والضد قبائلي في الوقت نفسه.

 

رابعاً: كنت أتمنى أن تتم الإشارة إلى جنوب المملكة على أنه مستقبل الأعمال الأفضل وبيئة الإسكان المناسبة، وأن الحكومة ستعمل على أن تكون هذه الرؤية على رأس أولوياتها في المستقبل القريب. دول العالم تعمل على إعمار المناطق الباردة فيها وتحاول قدر المستطاع تحجيم البيئات العمرانية في الصحارى الحارة أو المناطق شديدة الوعورة. نحن فقط من نسير بعكس هذه السنة الأممية، فلا نزال نسمن في الواحات الصحراوية ونسحبها ونطرقها في شكل يفوق طاقتها في إنتاج أسباب الحياة الخاصة بها. تتحدث الرؤية عن 3 مدن من ضمن أفضل 100 مدينة عالمية، وإني لأتمناها 3 مدن جنوبية.

 

خامساً: قال الأمير محمد بن سلمان إن المملكة تنوي إنشاء أكبر متحف إسلامي ليكون بوابة لكل من يريد أن يتعرف على الحضارة الإسلامية من المسلمين وغير المسلمين. وأظن أن هذا التوجه السياحي المقترن بكنوزنا التاريخية غير الموجودة عند غيرنا يدل على أن المملكة الجديدة ماضية في استعادة ماضيها التليد قبل 1400 سنة وزرعه في المستقبل. سعوديون نحن وهويتنا السعودية الحضارية ليست وليدة قرن أو قرنين من الزمان، وإنما هي ممتدة في تاريخ هذه الأرض المباركة.

المتحف سيُنشأ في الرياض، بحسب علمي، وأظن أننا نحتاج إلى إعادة التفكير في هذه المسألة. ففي الرياض لن يكون للمعتمر أو السائح الديني فرصة لزيارته والتعرف على ما يحويه من كنوز سعودية. لكن لو أنشأ في مدينة جديدة خارج مكة وخارج حدود الحرم لأصبح رمزاً عالمياً مرتبطاً بقدسية الزمان والمكان.

 

مدينة العمرة المقترحة بين جدة ومكة المكرمة بأبراجها وفنادقها وخدماتها ومطارها وخطوطها الحديد ستكون منصة تجارية ذات بعد إسلامي عالمي تسهم في زيادة مداخيل المملكة من مواسم الحج والعمرة. يأتي الزائر المسلم أو غير المسلم إلى هذه المدينة ليتعرف عن قرب على الإسلام وسماحته ومزاراته المختلفة وينعم بأيام سياحية عالية المستوى قبل أن يعود إلى بلاده. المسافر المسلم من ماليزيا إلى بريطانيا سيتوقف في هذه المدينة - المحور لساعات أو لأيام قبل أن يواصل رحلته. والأميركي غير المسلم المسافر إلى الهند أو دبي سيتوقف في مطار المدينة ذات التأشيرات الحرة ليأخذ جولة إسلامية قبل أن يواصل رحلته.

 

المتحف الإسلامي مكانه بالقرب من المزارات الإسلامية التي تدعم مقتنياته وتشرح تفاصيله. هكذا تتحقق الفائدة ويصبح لوجوده معنى وقيمة أكبر. أخيراً، فإنه يمكن اختصار كل المقالة أعلاه في جملة واحدة فقط: رؤية تمد يدها إلى المستقبل، وشعب يمد يده إليها.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه