العرب- بعد أن استرد جيش النظام الأسدي متعدد الجنسيات تدمر من يد عصابات داعش التي أخلت قوافلها المدينة قبل ساعات من ذلك دون أن تتعرض لطلقة واحدة، أطلق المحللون الإستراتيجيون خيالهم في رسم السيناريوهات التي سينفذها النظام بعد “تحرير” تدمر. فمنهم من توقع زحفا باتجاه الرقة، ومنهم من توقعه باتجاه دير الزور، ولكن فألهم لم يخب فكان انفلاتا بغارات البراميل في كل اتجاه خلاف ذينك. لقد أطلقت أيدي النظام، على الرغم من الهدنة المعلنة، وأتاحت له استئناف الهجمات الجوية والبرية ولكن هذه المرة باتجاه مدارس الأطفال وأسواق الخضار والسمك.
وفي ظل استئناف مفاوضات جنيف عادت عصابات الأسد إلى ارتكاب المجازر بحق المدنيين السوريين، فقد ساءها أن تبادر معرة النعمان إلى أن تنتفض في وجه تنظيم القاعدة في سوريا، جبهة النصرة، التي حاولت أن تستبدل الاستبداد الأسدي باستبداد ديني، فكان قصف سوق الخضار فيها في وقت الذروة بالصواريخ الفراغية كي تكون المجزرة البشرية بالحجم الذي تبتغي. خمسون شهيدا سقطوا، بينهم عدد كبير من الأطفال، وتمّ تدمير سوق الخضار والأبنية المحيطة، وأُصيب العشرات. أما كفرنبل التي واجهت جرائم الأسد وعصابته بالكلمة كما واجهت استبداد الآخرين، فكان نصيبها في سوق السمك اثنا عشر شهيدا وعشرات المصابين.
بالأمس، قال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، إن تقارير ترد من حلب وحمص ودمشق وريف دمشق وإدلب ودير الزور عن زيادة عدد الضحايا المدنيين، مشيرا إلى أن “إخفاق مجلس الأمن الدولي المستمر في إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية يعد مثالا على أكثر أشكال الواقعية السياسية خزيا”.
وأضاف أنه “في عقول الكثيرين أصبحت القوى الكبرى العالمية بالفعل متواطئة في التضحية بمئات الآلاف من البشر وتشريد الملايين، ولا يوجد حاليا ما يدفع أيا من مجرمي الحرب الكثيرين في سوريا إلى الكف عن المشاركة في دوامة القتل والدمار التي تبتلع البلاد”.
وبينما تدك القاذفات الروسية والمدافع المحيطة بمدينة حلب المناطق السكنية المأهولة والمراكز التي يفترض أن تتمتع بحصانة مثل مركز الدفاع المدني والمشافي والمراكز الصحية لتوقع عشرات، بل مئات الضحايا من المدنيين، ولتشيع الدمار في الأحياء السكنية والأسواق، تمتنع الجهات الراعيـة للهدنة التي أسقطها النظـام وحلفاؤه ومجموعة الدول “الداعمة لسوريا” الراعية لمفاوضات جنيف والتي يبدو أن أكثرها داعم للنظام الأسدي ويعمل على إعادة تأهيله، تعلن الخارجية الأميركية عن توافق مع الروس على استعادة العمل بوقف العمليات العدائية في كل من الغوطة الشرقية وريف اللاذقية ابتداء من فجر الثلاثين من أبريل.
ضوء أخضر أميركي صريح للروس ولعصابات الأسد وللاحتلال الإيراني وميليشياته متعددة الجنسيات يقول إنّ حرق مدينة حلب بمن فيها من مئات آلاف المدنيين، أمر مباح.
هنا ينكشف الخداع الذي ما فتئت قوى الهيمنة، وفي طليعتها الإدارة الأميركية، تمارسه منذ فجر الثورة. هذا الخداع الذي بدأ ينكشف منذ سقوط الخطوط الحمر تباعا، وتدرج التراجع في الخطاب السياسي حيال جرائم النظام الأسدي وفي التغاضي عن انخراط حزب الله والميليشيات التابعة للنظام الإيراني إلى جانب النظام، ثم التدخل الإيراني المباشر، ثم التدخل الروسي، ثم التغاضي عن سقوط عشرات الآلاف تحت التعذيب في معتقلات النظام، وعن حصار المدن والقرى حتى القتل بالتجويع، وعن إفشال كل مساعي التسوية السياسية، مرورا بتحريم إيصال الأسلحة النوعية لقوى المعارضة المسلحة، وصولا إلى إعطاء الضوء الأخضر لتدمير مدينة حلب فوق رؤوس سكانها.
بعد أن اتضح للجميع هذا الكذب وهذا الخداع وهذا التواطؤ، والذي هو طبيعي جدا في سياسات قوى الهيمنة أيا كانت هويتها، وبعد أن ثبت للجميع مدى الخداع الدولي حول داعش وما يمثله من تهديد، واستغلال ذلك في تخويف المجتمعات وتبرير السياسات في حين أن داعش يمكن القضاء عليه خلال أسابيع، وبعد أن ثبت عقم المسار التفاوضي مع نظام دموي شديد العدوانية يثق تماما بوقوف النظام الدولي كله وراءه، تأتي محاولات تركيع حلب واحتلالها بضوء أخضر من الولايات المتحدة، وفي ظل صمت مريب من جانب الأمم المتحدة والمؤسسات والمنظمات الدولية التي تعنى بالقضايا الإنسانية البحتة حيال قصف المشافي والمراكز الطبية ومراكز الدفاع المدني وبيوت المدنيين، لتتأكد مجددا ضرورة تمسك الشعب السوري كله بثورته وبوحدته وبحقه في الحياة.
بعد كل هذا، ماذا تبقّى للشعب السوري من خيارات؟ لا بد من الانتقال إلى أشكال عمل نضالي جديدة، فالتظاهر والنشاطات الثورية السلمية يمكن أن تنتقل إلى الخارج حيث يقيم السوريون والمؤيدون للثورة السورية كلما أتيح لهم، وبشكل يومي إن تم لهم ذلـك، أما الفعل الثوري على الأرض فيجب أن ينتقل إلى مستوى جديد منظم وفاعل، وذلك بنقل العمل العسكري النوعي والمنظـم إلى داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام عبر منظمات سرية تتبع أسلوب حرب العصابات لتنفذ عمليات عسكرية دقيقة الأهداف وتطال بدقة كبار رؤوس النظام الأسدي وضباط الاحتلاليْن الايـراني والروسي والميليشيات التابعة لهما.
ليس بغير التنظيم الثوري المسلح والكفاح الثوري المنضبط الملتزم بأهداف الثورة وبوحدة الشعب والوطن يمكن لهذه الاحتلالات الإجرامية والعصابة الدموية أن تتساقط.