الحياة - كلما خرج صوت ينادي بقيادة المرأة السيارة تداعت أصوات أخرى وأقلام مشحونة بالتشكيك والتفسيق، وربما أحياناً العلمنة والتغريب، حتى يومنا هذا ونحن نزايد على المرأة السعودية وكأنها كائن خارج عن تكوين البشرية النفسي والروحي والعقلي، يحتاج هذا الكائن إلى مزيد من الضبط والحسم والتوجيه.
برأيكم هل كل هذا الخوف على المرأة أم من المرأة؟
لنكن أكثر وضوحاً في هذه المسالة، كثير من الذين يستريبون بنوايا الداعين لإخراج المرأة من قوقعتها ليسوا حقيقة بخائفين عليها من مصادفات الحياة الصعبة أو مواجهة صلف الذئاب وتعدياتهم عليها في الطرقات، لأنها هي أصلاً موجودة يومياً وإلى ساعات متأخرة من الليل في الأسواق المفتوحة، وهذا لا يتاح أحياناً حتى للمرأة الغربية في حياتها الاعتيادية، فالأسواق هناك لها ساعات محددة لا تتجاوز السادسة، لذلك تكون ملزمة بالعودة إلى بيتها في وقت مبكر لا تخرج منه إلا للضرورة القصوى، أما السعودية فمختلفة تماماً، فقد تراها مع السائق الغريب في خلوة غير شرعية حتى مطلع الفجر، ومع ذلك لا ننتفض ولا تأخذنا حمية الإسلام وهي مع السائق المستعار، ولا تتحرك قلوب المذعورين من قيادتها للسيارة، إلا أننا سنحيلها إلى الضرورة، لأن الزوج لم يعد متفرغاً لتلبية طلبات زوجته، وليس بقادر على ملاحقة مشاويرها التي لا تنتهي.
سؤال ما لم تتعرض للتحرش من السائق نفسه، هل رأيناها تتعرض للتحرش أو الاغتصاب بمعية هذا السائق مهيض الجناح العاجز على رد أي اعتداء على سيدته؟
نحن لا نسال أنفسنا أين تذهب المرأة مع «كريم» (شركة سيارات أجرة) وغير كريم من سائقي الليموزين.. تدرون لماذا؟ لأننا أعطينا المرأة من دون أن نشعر ثقة كاملة، لكننا لم نعطها الحق والثقة في أن تجلس بانفراد تام أمام مقود السيارة المخيف، حتى أوصل الخوف ببعضهم إلى توهم أن قيادتها للسيارة سيضر بها، وكأن القيادة تعبير آخر للفحولة التي هي من اختصاص الرجل.
يا سادة يا كرام، المرأة ليست عيباً نحمله، وإن كنا نراها كذلك فإننا عدنا إلى ثقافات العصور الغابرة، تلك التي لا يمكن أن تراها إلا ملبوسة بروح الشياطين، وأكاد أجزم أن بعضاً ممن يمانعون قيادة المرأة السيارة يحملون في أذهانهم هذه اللوثة، متجاهلين واقع المرأة السعودية اليوم، التي أصبحت بثقة كاملة تعمل إلى جانب الرجل في كل المجالات، كأننا نسينا أننا تعلمنا قيمنا وأخلاقنا من أمهاتنا وأخواتنا، فلماذا عندما نصل إلى هذه النقطة - أعني قيادة المرأة للسيارة - نقف سداً منيعاً ضدها؟ فنسقط عنها العقل، ونلبسها حلة العجز، ونضع على رقبتها الحبل، ونقودها إلى حيث نريد. ألم تقف المرأة السعودية بكل ثقة أمام حشود الرجال بحجابها وتتحدث عن تجاربها وعلومها؟
رأينا واستمعنا إليها بكل احترام وإجلال، ولم تذهب عقولنا إلى ما دون ذلك، باعتراضنا على قيادتها السيارة نستعيد مواقف بعض متطرفي الأجيال السابقة ضد تعليمها وعملها، وأثبتت التجارب لاحقاً قدر جهلهم وأصبحوا أضحوكة تاريخية نتندر بها في مجالسنا، وهذا تماماً ما سيحصل مستقبلاً مع قيادة المرأة السيارة.
اسمحوا لي أن أعيد عليكم السؤال بصيغة أخرى، لمَ الخوف من هذه الأنثى ما دمنا نراها ذاتها قيمة معرفية وأخلاقية؟ إن المرأة التي تتشبث بعقيدتها وإيمانها لن تتخلى عن أبسط قواعد القيم الأخلاقية حتى لو كانت في أي بلد متحرر، وقد رأيناهن ونراهن في كل الدول.
يا سادة يا كرام.. المرأة المسلمة في فرنسا فرضت حجابها وأصالتها على المجتمعات الغربية مع كل الأذى الذي تتعرض له يومياً. أفلست حتى الآن كل عمليات التحديث والتغريب في تجريف الوعي الإسلامي الأصيل من عقول نساء العالم العربي، حتى في أعقاب رحيل الاستعمار الغربي عنه، تاركاً إدارة تلك البلاد تحت أيادي ممثلين لرؤيته الحداثية.
تونس كانت واحدة من البلاد العربية التي تأثرت أيما تأثر بحداثة فرنسا بقيادة المناضل الحبيب بورقيبة، الذي جاء بانتصار ساحق وضعه في مصاف القادة العظام، إلا أن «أبا الاستقلال» وصانع الدولة الحديثة حامل شعلة التغريب، ورائد الفكر السياسي العلماني الإصلاحي تلقى «لطمة» قوية، نقلتها وسائل الإعلام ووجهتها له طالبة الشريعة الإسلامية يوم برزت إليه لتستلم شهادة تخرجها مرتدية الحجاب، معلنة أمام الحشود رفضها القاطع للقبلة الأبوية من القائد الزعيم العجوز، وهو الذي ظن أنه نجح تماماً في اقتلاع الإسلام التقليدي من رؤوس مواطنيه بعد كل عمليات التجريف التي تعرضت له.
لم يكن لأحد من الرجال ليجبر هذه الفتاة على التخلي عن قيمها ولربما جوبهت بمعارضة شديدة، واستهجان طاغ لدى أطياف المجتمع التونسي الذي لا يمكن أن يرى القائد إلا بمنظار قداسة من نوع «ما»، ربما كان للحرية التي منحها «بو رقيبة» لشعبه دور في التعبير، حتى لو كان مختلفاً عن إطاره العام، ما دام هذا التعبير مسالماً ويعبر عن رؤية شخصية من دون إجبار الآخرين بها، هذا مؤشر على أن المرأة مهما حاولنا لجمها أو الانتقاص من قدرها أو الحط من قدراتها ستفاجئنا بما يعجز الرجال أنفسهم عن فعله، متى ضمنت لها الحرية وانتزعت من براثن الانتقاص والتجهيل! فمن كان سيقف أمام زعيم كبورقيبة ويشرخ واجهته السياسة سوى إنسان استحكمت قناعته عليه.
أعود إلى المرأة السعودية، التي لا تقل عن الرجل في قدرتها على إدارتها لنفسها، وإدارتها لحياتها وبيتها، وقد نهلت من العلوم الشرعية، وتربت على أخلاق الإسلام الفاضلة، لقد أثبتت أنها قادرة بامتياز على مواجهة ظروف الحياة بمفردها، تقود دفة المنزل وتنجح بامتياز لتقدم للمجتمع أبناء فاعلين ومنتجين يتبوأون مراكز عليا، ثم يأتي بعض الرجال الذين لا ينظرون إليها إلا على أنها متاع يلقون علينا محاضراتهم الفاشلة عن فتنة المرأة، والخطر الذي سيحيق بنا بسبب المرأة، فيما لو سمح لها بالقيادة، وكان المجتمع السعودي سيتحول بهذا إلى فوضى مستشرية تقلب البلد رأساً على عقب، بينما هي حقيقة ستقيم الموازين المقلوبة، وستخلصنا من سيطرة السائق، فكم من امرأة تعرضت لتحرشات السائقين وابتزازهم، ونشرت الصحف جرائم اغتصاب تعرضت لها نساء من سائقي ليموزين، وسائقين خاصين.
يجب ألا نناقش اليوم قضية قيادة المرأة للسيارة من أبعادها الأخلاقية والعقلية لأننا نثق بنسائنا، علينا أن نعتني جيداً بالقوانين والأنظمة الحامية للأخلاق العامة، فنحن تنقصنا كثير من التشريعات التي تضبط المجتمع بنصوص قوانين رادعة، وهي ذاتها التي جعلت المجتمعات الخليجية من حولنا يأمن بعضها بعضاً.
اليوم أحوج ما نحتاجه سن قوانين رادعة تعبر عن حرية الإنسان وتحميه من الآخر، خصوصاً قانون خاص بالتحرش الذي يطاول النساء اليوم في الأسواق.
أتصور أن القانون مطلب ملح، قبل أن يؤذن للمرأة بقيادة السيارة، ولتكن جزءاً من مشروع التحول الوطني المنتظر استكماله بحلول عام 2020. كي لا يكون إسلامنا خاضعاً لمزايدات المنتفعين، تستغل فيه المرأة وَقوداً لصراعات الجبهات المختلفة.