الحياة - في الوقت الذي كان العازف الروسي فاليري غيرغييف، المقرّب من الكرملين، يحيي أمسية موسيقية في تدمر «المحررة»، كانت محطة «سكاي نيوز» البريطانية تنشر وثائق تكشف عن تنسيق بين أجهزة أمن النظام السوري وأمراء في «داعش» حول كيفية انسحاب التنظيم من تدمر، وتسليمه لجيش النظام، بالإضافة إلى علاقات نفطية بين الطرفين تولى فيها «تنظيم الخلافة» تزويد النظام بالنفط مقابل تولي الأخير تزويده بمواد كيماوية لم توضح الوثائق وجهة استعمالها.
والحال أن الموسيقى الروسية في تدمر امتداد لرقصٍ دولي في بركة الدماء السورية. فـ «سكاي نيوز» البريطانية، وقبلها «بي بي سي» وعشرات وسائل الإعلام الغربية، لن تبني على ما توصلت إليه لجهة العلاقة بين «داعش» والنظام ما يقتضيه. الخبر هنا ينقضي بانقضاء زمنه، وزمن الخبر لحظات ليس أكثر، سيعود بعدها العالم إلى موقعه المتمثل في تبني رواية النظام عن «داعش».
عزف الفرقة الموسيقية الروسية في تدمر أقوى تأثيراً من آلاف الوثائق التي صارت بحوزة الرأي العام تثبت أن «داعش» ليس خصماً لتحالف موسكو وطهران وبشار الأسد. العالم اقتنع مع موسكو أنها بصدد القضاء على التنظيم الإرهابي، وهذه قناعة جائرة دفع السوريون ثمنها مجازر متنقلة بين حلب وإدلب والغوطة. والعالم إذ أحصى عدد الغارات الروسية على التنظيم واكتشف أن حرب موسكو هي في مكان آخر، لم يكترث لما توصل إليه من نتائج، لا بل أمعن في إعجابه بـ «الفعالية الروسية» على رغم ما يمثله هذا الإعجاب من سقطات أخلاقية تطرح تساؤلات فعلية عن حقيقة القيم الصادرة عنها.
فعشية الحفلة في تدمر كانت طائرة تابعة للنظام السوري تغير في إدلب على مخيم للاجئين وتقتل عشرات بينهم سبعة أطفال. رقص هنا ورقص هناك، ويتصدر خبر الرقص في تدمر خبر الموت في إدلب. هذه المعادلة ستفضي إلى مزيد من الفظاعة، ذاك أن مشهد تدمر أقدر على الثبات في وعي العالم من مشهد إدلب. الأول سيستحضره المفاوض الروسي إلى جنيف، فيما الثاني سيضمه العالم إلى مشهد المأساة بصفته عنصراً عابراً ويومياً ومملاً.
والعدالة المختلة في هذه المعادلة ستعيد إنتاج المشهد السوري على نحو يخدم النظام، فيما سيلتف العالم مجدداً على المأساة السورية بصفتها مشهداً مركباً ليس النظام فيه سوى عنصر يمكن التعايش معه.
لقد صار من الواضح أن القابلية للتسامح مع النظام أعلى من القابلية لتفهم تخبطات الفصائل المناوئة له. مسارعة «بي بي سي» لاتهام المعارضة بالوقوف وراء مجزرة حلب لم تكن خطأ مهنياً وحسب، إنما هي أيضاً صادرة عن هذه القابلية. فقبل التحقق من الخبر يشتغل الوعي بالمأساة وفقاً لاستعداداته المسبقة لاستقبالها. «بي بي سي» تملك استعداداً للاعتقاد بأن المرتكب هو الفصائل المعارضة، وهي سقطت في فخ قابليتها للاعتقاد. وهذا ليس خطأ «بي بي سي»، على رغم أنه خطؤها تقنياً، إنما هو مركّب نفسي جماعي يميل إلى تصديق الرقص الروسي في تدمر أكثر من ميله لملاحظة المجزرة في ادلب. سيتولد عن ذلك مزيد من المآسي.
وعرض محطات العلاقة بين تفشي «داعش» وتدفقه على نحو سلس ورشيق من مدينة إلى أخرى، في سورية وقبلها في العراق، وبين رغبة خصومها المتوهمين أن يشيد «عدوهم» خلافته، صار أمراً نافلاً ولا يملك مرتكبوه حجة واحدة لدفعه عن أنفسهم. لم يجب نوري المالكي يوماً عن سؤال كيف سقطت الموصل، وكذلك لم يفعل بشار الأسد في ما يتعلق بتدمر أو بدير الزور، هناك حيث يقف النظام على الحياد في القتال بين «داعش» والفصائل المناوئة للنظام وللتنظيم.
لقد صار مملاً تعداد محطات العلاقة بين النظام و»داعش». تسليم تدمر للتنظيم الإرهابي، ثم تسليم الأخير المدينة للنظام، كان أيضاً رقصاً موازياً تحت أنظار العالم. وهو رقص ينطوي على خبرات كبيرة في الحروب الوهمية. خطوة رشيقة لـ «داعش» إلى الأمام باتجاه المدينة، فيما النظام يخطو إلى الخلف، ليعود ويتقدم دافعاً العشيقة إلى الخلف، في وقت ينسحر فيه العالم بعذوبة الموسيقى الروسية. وبينما يلوذ الراقص الروسي بعشيقته على أبواب الصحراء تجري الحرب الحقيقية هناك، في إدلب وفي حلب، حيث المجزرة تتنقل والهدنة تترنح.
وهذا الاستعصاء الأخلاقي سيتولى مجدداً توليد الضغينة. والعالم الذي يريد إنشاء جدار في وجه اللاجئين السوريين لا يثيره استهداف مخيمات لجوئهم داخل سورية. فالمعنى الوحيد لاستهداف مخيمات لجوء داخلية هو الرغبة في دفعهم إلى خارج الحدود، أي إلى حيث راح العالم يستهول تبعات لجوئهم! لنعد هنا ونسأل عن المجرم، هل هو اللاجىء الهارب من الطائرة التي تحمل له البراميل المتفجرة، أم أنه النظام المحصن بالموسيقى الروسية؟
هل فعلاً أن العالم لم يدرك بعد أن التفجيرات في بروكسيل وباريس صادرة أيضاً عن هذا الاستعصاء؟ وأن المشهد الجلي والمتكرر والحميم لتانغو «البعث- داعش» سيجر عليه مزيداً من الموت والانهيارات؟ أكثر من نصف مليون سوري مرشحون لمغادرة حلب نحو تركيا وأوروبا، ومثلهم ربما من إدلب، وهؤلاء تم ترشيحهم لهذا المصير بفعل مجزرتين واضحتي المرتكب وقعتا في الأسبوعين الأخيرين. وكم يبدو غير عادل أن لا يبنى على هذا الوضوح وضوح في الوجهة، ناهيك عن أن رغبة الغرب في حماية نفسه لن تجد طريقها للتحقق إذا ما ترافقت مع هذا التمادي في التعامي عن حقائق أثبتتها آلاف الوثائق والحقائق والأفعال، وكلها تؤشر إلى أن «داعش» ضرورة لبقاء النظام وهدية كبرى لم تأته من السماء، إنما من خبرة كبيرة في مجال العلاقة مع هذه الجماعات تم تحصيلها على مدى عقود من عمله في انتاج الحروب ومن توظيفها. لم تحن ساعة «داعش» بعد، ولم تحن ساعة النظام السوري أيضاً. شيطانا الحرب والموت في سورية ما زالا على طموحهما في مزيد من الرقص. وجنوح العالم إلى الصمت يُغذي خيالهما بمزيد من المشاهد. والمذهل أن السوريين ليسوا وحدهم من تنتظرهم الكارثة بفعل ذلك، إنما العالم من حولهم أيضاً.