الحياة - ثمة خانة في بطاقة الهوية العراقية التي تسمى شهادة الجنسية تحمل تعريفا يقول “التبعية: عثمانية”. لأجيال كبرت ما بعد السبعينات كان الأمر يبدو غريبا بعض الشيء. أنت عراقي، فما علاقة “العثمانية” بتعريف الهوية. كانت الهوية العثمانية للعراقيين وسكان الشرق الأوسط قد استبدلت بالكامل ما إن انتهت الدولة العثمانية وتأسست الدولة الوطنية العربية. الرعايا العثمانيون، القريبون جغرافيا من الأستانة، صاروا عراقيين وسوريين ولبنانيين وأردنيين. ألف سنة من حكم الأتراك للشرق، منها 600 عام للعثمانيين وحدهم، تبخرت تماما.
الاستبدال كان عميقا. الدولة العربية الفتية كانت قوية وحازمة. تأسست الجيوش التي جمعت أبناء البلد الجديد حتى قبل أن تتأسس الحكومات أو قبل أن تستقر خدمات البلدية فيها. الهوية الوطنية الجديدة الجامعة انصهرت في عمارة الوطن الحديث. حققت الهوية الوطنية الجديدة ذاتها من خلال التكامل مع البنيان العربي العام في مرحلة ما بعد الاستعمار. الإعلام المركزي ممثلا بالصحافة والراديو وبعدهما بالتلفزيون، خلق إحساسا وطنيا على خلفية قومية. نجحت الدولة الوطنية في تثبيت أركانها بسرعة وزاد من نجاحها عدد السكان القليل ووفرة الموارد الطبيعية.
بعد مرحلة الجيش جاء التعليم واستقر حال الهوية الوطنية أمام علم يرفع ونشيد يردّد. في أغلب الدول العربية، تلاشت القبلية والطائفية. الهويات الدينية والعرقية انزوت في ركن مظلم من أركان الدولة الحديثة وإن كانت تعبّر عن نفسها بقداس مسيحي هنا أو تمرد كردي هناك. الدولة الوطنية كانت جبروتا مطلقا تقريبا. هويتها كانت مثلها. كان هناك قلق غير موضوعي من الغزو الغربي الذي يمكن أن تتعرض له الهوية الوطنية/الثقافية الجديدة. هذا التوجس من الآخر لا يزال مستمرا ويرتفع منسوبه أو ينخفض مع التبدلات التكنولوجية والسياسية في المنطقة.
الهوية الوطنية العربية صمدت إلى حد كبير أمام العولمة الغربية في مراحلها السياسية في الخمسينات والستينات، والعولمة الثقافية فيما بعد السبعينات من القرن الماضي. الصمود امتد أيضا ليشمل رفض النموذج الاشتراكي/الشيوعي الذي كان بديلا تافها لما يعرضه الغرب. لكن الهوية الوطنية كانت أمام اختبار خطير، انقلابي وغرائزي أكثر منه أيّ شيء آخر. هذا الانقلاب حدث عام 1979 بوصول الخميني إلى الحكم في إيران. انطلقت آلية استبدال تشبه إلى حد كبير تلك التي استبدلت العثمانية بالوطنية مطلع القرن العشرين. وبحلول الألفية، كانت آليات “تصدير الهوية” قد اكتملت وتنتظر فرصتها التي جاءت عام 2003 بالغزو الأميركي للعراق. عالمنا العربي اليوم يعيش هوية مستبدلة. لم تطلق الغرائز في المنطقة بين المسلمين وحدهم الذين تشظّوا بين سنّة وشيعة. المسيحيون أعادوا اكتشاف “قوميّتهم” المسيحية. الأكراد والأمازيغ رسموا على الأرض، أو نفسيا، الحدود الفاصلة عن المحيط العربي، داخل الوطن وخارجه. الدروز الذين نزلوا من الجبل وتزاوجوا مع المسلمين والمسيحيين على حد سواء، عادوا اليوم إلى جبلهم يحتمون بهويتهم المتجددة.
الأقليات، كما أصبحت فسيفساء التنوع الجميل تسمى، صارت تعريف الشرق الجديد. من صمد هم أهل الخليج الذين طوروا تحولات أكثر هدوءا وموضوعية لهويتهم رغم أن إيران تطرق أبوابهم الداخلية بشدة.
الاستبدال من العثمانية إلى الهوية الوطنية الجديدة كان سلميا نسبيا، ربما لأنه كان طبيعيا ومتناسقا مع اكتفاء العثمانيين بالحكم من دون السعي إلى التغيير الثقافي والديني.
الاستبدال نحو الغرائز الطائفية كان داميا، من أول يوم من أيام الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 وحتى يومنا هذا. الحرب ما تزال دائرة وتزداد رقعتها بلدا بعد بلد وساعة بعد أخرى. بدلا من انفتاح الهوية الوطنية على المكونات الفكرية والثقافية للآخر، نعيش اليوم اهتزازا شديدا في الهوية وتقوقعا غير مسبوق أطرف ما فيه أنه يستخدم كل أدوات الانفتاح من فضائيات وإنترنت ووسائط اجتماعية لاستكمال حلقة انغلاقه.
الهويات الوطنية اليوم تقف على مفترقات طرق كثيرة لا نجد ما يوجّهها في إطار جامع. هناك هويات جزئية مشاكسة جدا وعقابية وتعيش على عقد معاصرة وتاريخية. تتغذى هذه الهويات على صراعات ملتبسة الأغراض ويتداخل فيها الطمع والكراهية والسخافة حتى تحتار في تعريف ماذا يريد أصحابها من أيّ شيء. فكرة الانتماء لهوية ثابتة صارت محل شك وتفسيرات.
الخطر الآخر هو أن الهويات السائدة اليوم لا تعرف كيف تنفتح على الآخر وكيف تندمج في العالم الواسع. صارت لديها قدرة لا على التقوقع في جغرافيتها الرثة، بل أن تصدّر نفسها إلى جغرافيات المهجر البعيد فتزرع أمراضها في أجيال كان بوسعها أن تبدأ من جديد. مرة أخرى تثبت الثقافة في عالمنا العربي عجزها لتجد نفسها واحدة من ضحايا قوى كبيرة تتغلب عليها بسهولة. |