يدفع صاحب نظرية “صفر مشاكل” ثمن رؤيته الطوباوية لتركيا والمحيط، كما لمفهومه للسياسة وممارسة السلطة. بارح الرجل موقعه المتأمل الذي وفّر له أن يكون مفكرا أكاديميا يرتقي به البعض إلى مرتبة الفيلسوف، واقترب بوتيرة صاعدة من موقع الحكم والحاكم. في تلك المسيرة يكتشف داود أوغلو وهن نظرياته، وربما سذاجة مقاربته لشروط السلطان.
حمل البروفيسور أحمد داود أغلو عصارة نظرياته عن “العثمانية الجديدة” وراح يجول بها على العالم مبشرا. أراد وزير الخارجية التركي ما بين 2009 و2014 أن يخترق العالم من شرقه إلى غربه من خلال ردم الفجوات وتنفيس الانتفاخات ومعالجة الأورام.
اعتبر في المرحلة الأولى أن أمر تصفير المشاكل متاح، حتى أقنعنا أن إرادة عجيبة تخرج من عباءته ومن تحت خيمة قبيلته السياسية لتجاوز المعضلة التاريخية مع الأرمن أو تلك القديمة الراهنة مع الأكراد والقفز ما فوق التاريخ العثماني وأدبياته لدى العرب والإبحار نحو أوروبا والتحليق فوق الفضاءات في آسيا. بيد أن راهن تركيا في المشهد الإقليمي والدولي الحالي يثبت أن التصفير ليس قرارا تمسك به النوايا الذاتية، بل فعل تؤكده أو تنفيه إرادات الآخرين.
من السريالية المرّة أن داود أوغلو المبشّر بتصفير المشاكل هو نفسه من قاد دبلوماسية بلاده في عصر المشاكل الكبرى. كيف لمن اختار سحب بلاده من أيّ تصادم وتدوير زوايا أي تباين مع الآخر أن يقود انقلاب سياسة بلاده الخارجية. والإشكالية ليست في تبدّل سياسة تركيا الخارجية وانقلاب تحالفاتها الإقليمية والدولية، فذلك عادي في مسارات الأمم، لكن العجب هو في استمرار داود أوغلو في التبشير بشيء والعمل على نقيضه.
من تلك اللحظة، بين النظرية والفعل، بدا مأزق داود أوغلو جليا. للمتأمل أن يستنتج أنه طاب للرجل التظلل بسقوف السلطة، وبالتالي ضاق أفقه في فهم التحوّلات، على ما يبرع في رصده الفيلسوف المفكر. لم يعرف داود أوغلو أن الإبحار في بحور السلطة يستدعي الاستمرار في الإبحار دون كلل بحثا عن شاطئ متخيّل لن يجده أبدا.
ينتقل داود أوغلو من موقعه الدبلوماسي إلى رأس السلطة التنفيذية رئيسا للحكومة عام 20014. عوّل رجب طيب أردوغان على داود أوغلو المثقف لكي يمعن في التنظير لسلطانه على رأسي الحزب والحكومة. لم يتوقع أردوغان أن “رجله” المخلص سيختبر شؤون الحكم إلى درجة تخيّله أن السباحة دون معلّم باتت ممكنة. فحزب العدالة والتنمية بالنسبة إلى أردوغان هو أداة لسلطانه، ورجال الحزب الكبار جنود في حملاته، فكيف لداود أوغلو أن يتجرأ على التشكيك بشرعية مسعى الزعيم لنظام رئاسي يجعله سلطان زمانه.
بعين المفكر رأى أحمد داود أوغلو في انتصار حزبه في الانتخابات الأخيرة ثقة يجددها الناخب للحزب الذي يحكم البلاد منذ عام 2002. وبنفس تلك العين رأى الفيلسوف أن عدم الحصول على أغلبية مطلقة هي رسالة رفض وجهها الناخب للنظام الرئاسي الذي يلهث أردوغان وراء فرضه. وبعين السياسي العتيق راح رجب طيب أردوغان يعطّل مساعي ائتلاف حكومي كان يسعى إليه داود أوغلو بعد انتخابات نوفمبر 2014 ويدفع باتجاه انتخابات مبكرة استعاد بها الحزب مواقعه (يونيو 2015). بدا أن أردوغان ربح الرهان/المغامرة من خلال فوز الحزب، فيما رفد عدم حصول الحزب على الأغلبية المطلقة رأي داود أوغلو في المحافظة على النظام البرلماني ولفظ ذلك الرئاسي الأردوغاني.
أراد البعض تشبيه الثنائي أردوغان-داود أوغلو بالثنائي بوتين-ميدفيديف. كان ذلك ليكون صحيحا لو اكتفى “رجل” أردوغان في السكون إلى وظيفته وعدم الطموح بتجاوز خطط الزعيم. لم يلحظ داود أوغلو أن أردوغان لفظ يوما صديقه عبدالله غول الذي رفض نموذج الثنائي الحاكم في موسكو، ولم يلحظ أن أردوغان أبعد القياديين المؤسسين عن انتخابات نوفمبر، فجاءت نتائجها ضعيفة، ليعيدهم برشاقة إلى لوائح الترشيح في انتخابات يونيو التالية. لم يلحظ “الدكتور” أن الحزب في الشكل والمضمون والشخوص مسخّر لإنتاج السلطة، خصوصا سلطة الزعيم، وأن سحب الحزب من داود أوغلو صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب، هو تماما سلوك هدفه صيانه تلك الآلة وتفاصيلها في خدمة الزعيم.
كان للسلطان ما أراد ووقع المفكّر على اللائحة القيادية للحزب التي أخرجت “الثقيل المزعج” مهما كان وازنا. من تلك اللائحة لاحظ داود أوغلو خروج نائب رئيس الوزراء بولنت أرِنتش، الذي تجرأ يوما على معارضة أردوغان في مسألة التعامل مع مظاهرات غازي بارك عام 2003.
أردوغان لاعب كرة قدم عتيق يجيد المناورة واختيار اللاعبين ومقاصد ركلاته، وهو وإن مرر كرة إلى داود أوغلو فهي لكي تعود إليه أو لكي تسجّل في أهداف الخصوم لصالحه. لم يدرك داود أوغلو أن أردوغان في مبارياته يملك الفريق واللاعبين والملعب والحكام، وربما الجمهور الذي سيتوجّه إليه متوسلا طموحاته الرئاسية.
لن تكون تركيا كما تخيّلها داود أوغلو أمة متعددة في اللغة والثقافة والقومية. فتركيا من بعده هي تركيا أردوغان ووفق أجندة أردوغان. لم يتأخر رجل تركيا القوي في الإفصاح عن خططه، لن يستجدي برلمانا ولن يناور مع ائتلاف. يريد لاعب الكرة أن يسمع تصفيق الجمهور. إليه سيتوجه للاستفتاء على الدستور الرئاسي، وفي سبيل ذلك يستنفر عدّة كتل تخلط ما بين الشعبوية والغرائزية، هكذا دائما في التعامل مع الكتل البشرية على مدى التاريخ. شكر أردوغان “الدكتور” وراح ينشد قصائد مظلومية المسلمين في العالم، فتلك جرعات ستأتيه بالناس شاهرين أصواتهم الانتخابية مباركين في الاستفتاء العتيد لسلطان تركيا الجديد.
سيعين برلمان الحزب في 22 من الشهر الجاري رئيسا جديدا للحزب، وبالتالي رئيسا جديدا للحكومة. لا نعرف الشرعية الموضوعية لذلك في النظام الديمقراطي (طالما أن القانون يسمح)، ذلك أن الناخبين أتوا بحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أحمد داود أوغلو، قاصدين أن يبقى الرجل رئيسا للحكومة، وليس من سيخلفه من وراء ظهورهم. لا يهم من سيكون الخليفة، فهو بالتأكيد سيكون بيدق أردوغان الجديد. يغادر داود أوغلو السفينة دون صخب، إما لأنه لن يعود إلى ركوب السفن ومخر الأنواء زاهدا، وإما لأنه ينتظر وصول موجة كبرى تعود به إلى الواجهة. فالسلطة علّة لا نعرف إذا أتيح للمفكّر أن يبرأ منها. |