العرب - خلال الأشهر القليلة الماضية حصلت تحولات عميقة في التصورات الأوروبية حول الدين الإسلامي، انعكست سلبا في نتائج استطلاعات الرأي التي أجراها عدد من مراكز الدراسات والمؤسسات البحثية، التي تسعى إلى قياس الرأي العام تجاه القضايا الأكثر التصاقا بواقعه السياسي أو الثقافي، أو غير ذلك من القضايا. وفي الآونة الأخيرة أجريت استطلاعات عدة في عدد من البلدان الأوروبية، أظهرت أن هناك تراجعا ملحوظا في الموقف الإيجابي من الإسلام والمسلمين، مقارنة بالنتائج المتحصل عليها في سنوات سابقة.
قد يقال إن تلك النتائج لا تعكس التوجه العام والمستقر للرأي العام الأوروبي إزاء الإسلام، إذ أنها تجرى في ظروف خاصة تتميز بردات الفعل الفورية لدى المواطنين الأوروبيين، وبالتالي فإن تلك النتائج تظل مؤقتة وعابرة. وهذه وجهة نظر تبدو سليمة في الظاهر، بيد أن الواقع مختلف تماما في ما يتعلق بالموقف من الإسلام في الثقافة الأوروبية. ذلك أن نتائج تلك الاستطلاعات تنعكس على القرارات السياسية والمواقف الرسمية للحكومات والأنظمة، وتلقي بظلالها على الأزمات السياسية التي تحصل في المنطقة العربية، وتكون لها تبعات قد تمتد إلى سنوات أبعد؛ زد على ذلك أنها تخدم سياسات الأحزاب اليمينية المتطرفة وأجنداتها، وتصب المزيد من المياه في قنواتها، وتنعش خطابها المتطرف تجاه المسلمين بشكل خاص، وقضية الهجرة بشكل عام.
وبعد الأحداث التي حصلت في الشهور الماضية بكل من فرنسا وبلجيكا، وأدّت إلى سقوط العشرات من الضحايا في أعمال إرهابية نفذت باسم الإسلام من لدن جماعات محسوبة على المسلمين، يبدو أن هناك موجة غضب عارمة بدأت تزحف بشكل تدريجي في أوساط الرأي العام الأوروبي، وتخترق صفوف النخبة الغربية، التي باتت تتقاسم هواجس الأمن والاستقرار مع المواطن البسيط، وتعمل على عقلنة ذلك الغضب الشعبي العارم ضمن قوالب فكرية تعيد تحويله إلى نمط ثقافي في الوعي الأوروبي.
والملاحظة الأبرز، التي تستدعي الاهتمام، أن تلك التحولات في صورة الإسلام والمسلمين بأوروبا قد بدأت تمس حتى التيارات التي كانت إلى الأمس القريب تعتبر حليفا تكتيكيا للمسلمين والمهاجرين، كما هو الشأن بالنسبة لليسار.
وفي فرنسا تجري اليوم مواجهة إعلامية وثقافية واسعة بين تيارات اليمين والوسط وبين التيار اليساري، الذي يتهم بتضامنه مع المسلمين وتوظيفه لشعار الإسلاموفوبيا، لأن هناك أصواتا من اليسار تنبعث بين الحين والآخر لإدانة الخلط المقصود بين الإسلام والإرهاب، وبين المسلمين والمتطرفين، ووضع الجميع في سلة واحدة. وهذا الموقف المعادي لهذا الخلط يظهر بجلاء أن الفاصل بين الإسلام والإرهاب في التصورات الشعبية الأوروبية أصبح فاصلا رفيعا من السهل تخطيه، وهو مؤشر على أن صورة الإسلام الحقيقية في أوروبا قد بدأت تتهاوى، بفعل ما يقوم به المتطرفون، الذين لا يستهدفون، في حقيقة الأمر، سوى المسلمين في أوروبا، متوهمين أنهم يستهدفون فقط الأوروبيين بالإرهاب الأعمى الذي يمسّ الجميع.
في الأسبوع الماضي أجري استطلاع للرأي في فرنسا وألمانيا، بشراكة بين مؤسسة “إيفوب” لاستطلاعات الرأي وصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، وقد جاءت نتائجه كارثية ومفعمة بالدلالات والدروس التي يتوجب أن يستقيها المسلمون، وأن يتعاملوا معها على أساس أنها مؤشرات لما يمكن أن يحصل مستقبلا في العلاقة ما بين الغرب والإسلام، سواء بالنسبة للمقيمين في الديار الأوروبية، أو بالنسبة للبلدان العربية والإسلامية. وقد أظهر الاستطلاع أن هناك تراجعا كبيرا في مواقف الأوروبيين تجاه العديد من القضايا المطروحة على ساحة الإسلام في أوروبا.
ويكفي التوقف عند ثلاثة مؤشرات في الاستطلاع، لمعرفة التوجهات التي تخترق المجتمعات الأوروبية في هذه المرحلة.
المؤشر الأول يرتبط بالاندماج، فردا على سؤال “هل الأشخاص ذوو الأصول المسلمة مندمجون جيدا في المجتمع؟”، أجاب 63 بالمئة من المستطلعين بالنفي، وهي نسبة عالية جدا، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الأمر يتعلق ببلد أوروبي وصل فيه المسلمون اليوم إلى الجيل الرابع الذي يعدّ جزءا بنيويا من المجتمع الفرنسي. والأخطر من ذلك هو التفسير الذي قدمه المستجوبون لعدم الاندماج ذاك، فقد رد هؤلاء مسؤولية عدم الاندماج إلى المسلمين أنفسهم، وفي ذلك إدانة واضحة وإشارة مبطنة إلى أن المسلمين يرفضون قيم المجتمعات التي يقيمون فيها.
أما المؤشر الثاني فهو يرتبط بما إن كان المسلمون يشكلون تهديدا للمجتمع، وفي هذا الإطار قالت نسبة 47 بالمئة إن الأمر كذلك، و19 بالمئة ردت بالإيجاب، فيما نسبة 34 بالمئة قالت إنها لا تملك رأيا، وهذه الفئة الأخيرة لا يمكن إغفال موقفها، لأن نسبة منها، في حالة الحسم،
سوف تكون إلى جانب الرأي الأول.
المؤشر الثالث، الذي يقول معدّو الاستطلاع إنه يدل على تحوّل في الثقافة السياسية الفرنسية تجاه الإسلام، يخص موقف الناخبين المحسوبين على الحزب الاشتراكي الفرنسي. فبين آخر استطلاع أجري عام 1989 والاستطلاع الأخير، حصل انعطاف كبير في موقف هذه الفئة من المسلمين، بحيث سُجّل ارتفاع بنسبة 13 بالمئة في صفوف هؤلاء تجاه جملة قضايا طرحت عليهم، من ضمنها موقفهم من اندماج المسلمين ومن بناء المساجد، ومن التهديد الذي يشكله المسلمون على الهوية الفرنسية والأوروبية.