من العبث أن يكتب كاتب أو يهدر قارئ وقته في القراءة، عن أحوال مصر قبل 60 عاما، في الأسطول والطيران والبوليس والسجن وحديقة الحيوان ومستشفى المجانين، انطلاقا من مشاهدة أفلام إسماعيل ياسين. الشعوب القديمة والمدن الراسخة ليست كتلة متجانسة، ولكنها نسيج شديد التركيب، بحر يحتفظ بذاكرة وعلاقات وقيم متناقضة لا تحتمل من الخفة ما يرشحها للطفو، وإن كان السائح ذو العين الاستشراقية لا يرى إلا ما يطفو ولو كان سرابا.
قبل بضع سنوات قابلت في الهند صديقا سوريا، ظل متحفظا في الكلام عن بلاده، حتى آنس فيّ اطمئنانا سمح له بقول ما لم يكتبه أحد، عن ترتيبات نقل السلطة إلى بشار الأسد، وكيف استبقت الأجهزة عملية إعلان وفاة حافظ الأسد، بإحكام السيطرة على الحدود والمدن والشوارع والبرلمان الذي دعي أعضاؤه لأمر، ثم فوجئوا بآخر، وقبل انهيار بعض النواب من هول مفاجأة موت الرئيس، كان عليهم أن يبايعوا ابنه رئيسا. لم أكن لأقترب من مثل هذه الصورة بمتابعة ما نشر، ما اختاره آخرون لكي أقرأه أنا وغيري. ومن الفطنة ألا يتعجل قارئ بإبداء حكم في قضية لا يحيط بها علما، مدفوعا بالفرح بمجرد أن تقع في يده قصاصة تطمئنه إلى رأي مستقر في نفسه. وقد زرت بلادا أكثر من مرة، ولا أجرؤ على الفتوى في شأن يختلف عليه أهلها، وخصوصا في مراحل اختلاط الخيط الأبيض في صراع ما بعد الثورات بالأسود، كالنزاع بين مجلس قيادة الثورة في مصر عام 1954، أو ما جرى في الجزائر بين أحمد بن بلة وهواري بومدين عام 1965.
لا أملك في الحالة الجزائرية إلا أن أقرأ كثيرا لأحار أكثر؛ وأسأل من عاصروا الأحداث ومن ولدوا بعدها؛ فهم أقدر على تقديم تفسير واع أكثر موضوعية بحكم مسافة زمنية تعفيهم من التورط العاطفي. ولكني أجد سياحا، يحلو لهم القيام بدور القضاة، ويجيدون إطلاق الأحكام بالتكفير الوطني والثوري بحق بومدين وعبدالناصر، وكلما قرأت هجوما من هذا النوع ينهض عبدالناصر حقيقة راسخة، لا شخصية عابرة، وإذا كان المثل المصري يقول “الضرب في الميت حرام”، فإن الضرب في عبدالناصر ليس حراما على الإطلاق؛ إذ يثبت أنه يحيا بإنجازاته وخطاياه، بمجده وأخطائه، إذا استعرنا جملة مهدي الجواهري. في نهاية عام 2012، حين تخبط المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة البلاد، طالب ميدان التحرير بتسليم السلطة، ولم يخل الأمر من كبار في السن عاصروا عبدالناصر، يهتفون بسقوط “حكم العسكر” وبعضهم يحمل صورة عبدالناصر. مشهد لا تراه عين استشراقية، وإذا رأته فسوف تتهم أصحابه بالتناقض، ولكن صاحب الهتاف متسق مع نفسه، يعنيه أن صاحب الصورة كان وطنيا نظيف اليد، حكم بلدا في سياق عاصف، وأنصف عموم الشعب، وبقيت له في ميزان التاريخ كفة راجحة، تؤكدها صورته الصامدة في الشارع بعد نحو نصف قرن من التشويه، لأنه حقيقة، وليس بميت، ومن قبره يسبب عقدة نفسية لغيره، في مصر وفي أنظمة “رجعية”.
وقبل شهر من بدء موسم الهجوم على عبدالناصر، في ذكرى هزيمة يونيو 1967، نشرت “العرب” الخميس الماضي (5 مايو) مقالا عنوانه “ترسيم الحدود الثقافية والأزمة المصرية”، يعتمد على مقال لكاتب مصري، لكي يقول كلاما كبيرا وكثيرا، فعبدالناصر مثلا “ما أتيحت له القيادة لولا الرصيد الذي خزنته مرحلة الليبرالية الملكية المصرية، وبدأ عبدالناصر ومن بعده يستنزفون هذا الرصيد حتى نسفوه”، وكأن الرجل الذي مات عام 1970 مسؤول عن خطايا الأسلاف، وهذا ادعاء لم يجرؤ عليه مصريون من أعداء عبدالناصر، فإذا حلت لهم المزايدة على دوره العروبي قالوا إن عروبة مصر بدأت قبل عبدالناصر الذي كان، رغم الهزيمة العسكرية، أشد خطرا على العدو من سلفه الخارج من انتصار 1973.
يدعي المقال أن ثورة يوليو “صدّرت الانقلابات العسكرية في ليبيا واليمن والعراق وسوريا”، في سعي إلى تمرير مغالطات تتوارى خلف بعض الحقيقة؛ فما شهدته سوريا في الأربعينات لا علاقة له بعبدالناصر إذ كان تنظيم الضباط الأحرار في مراحل التشكل. وما حدث في ليبيا في “الفاتح” من سبتمبر 1969 فاجأ عبدالناصر الذي لم يزعم أنه صنعه أو دعمه، كما لم يزعم أنه أسهم في صنع ما جرى في 14 يوليو 1958 بالعراق.
مصر الناصرية، بإمكاناتها الاقتصادية ومواردها المحدودة أثمرت عقليات فذة، لا تنتمي إلى العهد الملكي: جمال حمدان وعبدالوهاب المسيري وفاروق الباز وأحمد زويل. ولكن المقال الذي استسهل النطق بأحكام كثيرة يرى أن مصر مؤثرة “حين يكون في واجهتها مصطفى أمين ومحمد عبدالوهاب، لكن من المستحيل أن تؤثر إيجابيا وفي واجهتها أحمد موسى ومصطفى بكري وسعد الصغير وتوفيق عكاشة”، وباستثناء عبدالوهاب فإن هذا كلام حاطب ليل؛ فمصطفى أمين لا يرقى إلى أعلام مصر إلا لعين عجول لا تستطيع صبرا على الاقتناع بأن الأربعة الآخرين مجرد كاريكاتير.
وفي خلط آخر يدعي المقال أن “مصر بحاجة إلى التحرر من عقل ثورة يوليو كحاجتها إلى التحرر من العقل الإخواني”، ويكفي لطمأنته أن مصر في أسوأ حالاتها تقاوم بالفنون، فعقب هزيمة 1967 أنتجت في ثلاث سنوات أفلاما من كلاسيكيات السينما العربية “الزوجة الثانية” لصلاح أبوسيف، “الأرض” ليوسف شاهين، “ميرامار” الذي ينتقد تجربة عبدالناصر و“غروب وشروق” لكمال الشيخ، “المومياء” لشادي عبدالسلام، و“البوسطجي” لحسين كمال مخرج “شيء من الخوف”، الذي أجازه عبدالناصر قائلا إنه لو كان يشبه “عتريس” بطل الفيلم فهو يستحق الموت. أنتجت مصر بعد الهزيمة، وربما بسببها، أفلاما صامدة لاختبار الزمن، هكذا تكون المقاومة بالخيال.