العرب - لعل السبب الأبرز لعدم قدرة لائحة “بيروت مدينتي” أن تشكل بديلا عن التيارات الحزبية في بيروت، وأن تكون رافعة لتجارب مماثلة في أكثر من مكان هو أنها اتخذت، شاءت أو أبت، صيغة طائفة. الطائفة في السياق اللبناني يمكن أن تضم، في لحظة ما، تشكيلة من ناس ينتمون إلى طوائف مختلفة، كما هو حال تركيبة “بيروت مدينتي”، إذا كان ممكنا اختصارها ببعد واحد. هكذا لم تستطع هذه التجربة الوليدة فصل نفسها عن البنية المؤسسة لشكل الطائفة وخطابها، فصارت حاملة ومنتجة لصورة تحتوي على أبرز ما تتسم به الطوائف وهي كونها مجتمعا كاملا، وتاما، ومنجزا، ولا يقبل في صفوفه إلا من يعلن الولاء التام لهذا المشروع، والخضوع لكل سياقاته.
من هنا كان التصويت الذي نالته – والذي كان فيه الفرق بين أول الخاسرين في اللائحة وآخر الرابحين في اللائحة المقابلة لا يتجاوز الـ7000 صوت – مدخلا لقراءة شكل هذا التصويت والمعاني الذي اتخذها والتي أظهرت المعلومات التي خرجت عن توزيع خارطة التصويت أنه كان تصويتا مسيحيا بالدرجة الأولى، وتعود أسبابه إلى النكاية بالحريرية وليس إلى الاقتناع بالمشروع المنطقي والمنظم الذي تنادي به هذه اللائحة.
النكايات لا تخلق سياقات سياسية، ولا تؤدي إلى إعادة إنتاج الوعي الاجتماعي وتفكيك الحس الطائفي، بل تدفع إلى إعادة التمركز حول البنى القائمة وتمكينها. الصوت المسيحي تهرب من قرار قيادته الثنائية “العَوْنيّة – القُوّاتية” لأنه أراد أن يزايد عليها في مسيحيتها، وليس لأنه رأى أن هناك مشروعا بديلا يستحق التأييد، وكذلك كان الصوت السني البيروتي الرافض للتوافق الذي رأى فيه تعبيرا عن نقص حاد في سنية الرئيس سعد الحريري، وإصرارا على دفع ثمن عناوين لم تعد حاملة لأي معنى، نظرا لأن القوى الأخرى لا تشاركه في التوجهات نفسها، بل تستفيد فقط من مرونة طروحاته ووطنيتها للحصول على مكاسب دون أن تلتزم بموجبات التحالف.
الخطير الذي أفرزه واقع الانتخاب في العاصمة اللبنانية، يقول إن الحريري الذي أبدى علنا مرارة كبيرة من سلوك الحليف المسيحي الذي صبت جل أصواته ضد لائحة التوافق التي بناها على حسابه، لا يستطيع بعد الآن إبداء مرونة كبيرة أمام الرأي العام السني البيروتي، الذي وجه له رسالة شديدة اللهجة من ناحية، وأعاد تشكيل زعامته من ناحية أخرى بشروط قاسية لا تقبل التسامح، ولا التهاون في أي شأن يتصل بالعنوان السني.
يعتبر الصوت السني الذي حسم المعركة في بيروت لصالح الحريري أن وجهة نظره الرافض للتوافق والمناصفة أثبتت صحتها وقائع خيانة الحلفاء، وتفترض أن ذلك يجب أن يترجم عبر إعادة إنتاج لكل التحالفات والعلاقات بين الحريري والأطراف المسيحية بشكل عام. الحريري وبعد انكشاف مسارات التصويت المسيحي أبدى رغبة في الرد على هذا السلوك، ولا يبدو أن هناك طريقة للرد لا تتخذ شكل إنهاء الحلف المستقبلي القواتي الذي ظهر في الآونة الاخيرة عامرا بالخدوش والثقوب التي تعبر من خلالها الخلافات الجوهرية.
انتصار الأحزاب في الساحة المسيحية يقول الأمر نفسه من ناحية الشكل الذي اتخذته المعارك الانتخابية في نموذجها البلدي، حيث أنها لم تكشف عن صراع بين تيارين أو بين مشروعين، بل عن مزايدات حول الأمر نفسه. الأحزاب المسيحية الفائزة تحمل عنوان حقوق المسيحيين، وتمثيل المسيحيين، وتحارب الأطراف المسيحية الأخرى بحجة أنها تفرط بالقرار المسيحي، وبما تعده هذه الأحزاب إجماعا مسيحيا يعتبر الخارج عليه مهرطقا، ويستحق الإعدام البلدي، وما يستتبعه من إعدام نيابي وتمثيلي لاحقا. هكذا يتخذ انتصار الأحزاب المسيحية عنوان انتصار الأكثر مسيحية على الأقل مسيحية، وتاليا فإن هذه المسيحية الحزبية المنتصرة لا يمكنها أن تنتج سوى المزيد من الأمر نفسه على مستويات السياسة والانتماء.
الساحة الشيعية التي انتصرت فيها ثنائية حزب الله وأمل، بنسبة 54 في المئة من الأصوات مقابل 46 في المئة لمنافسيه، لا تفصح عن مشهد مغاير لواقع الإحكام الطائفي بصيغته الحزبية، عكس ما تذهب الكثير من التحليلات المتفائلة والتي ترى في هذه الأرقام دليلا واضحا على بداية خروج الرأي العام الشيعي من أسر هذه الثنائية الحاكمة.
العناوين الكبرى التي تشكلت صلب الخطاب السياسي للحزب لم تمس إطلاقا على الرغم من أن الانتخابات البلدية اتخذت طابعا سياسيا. بقي الخطاب متمركزا حول العناوين نفسها، وحرص المتنافسون مع حزب الله وأمل على عدم فصل أنفسهم عن خياراته الأساسية، ما يعني أن الأمور في الساحة الشيعية لاتزال على حالها، وأن كل ما أنتجته هذه الانتخابات لا يتجاوز حدود إجبار نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، على خفض نبرة صوته قليلا.
ربما تكون المرارة الأبرز في كل هذا السياق أن المجتمع المدني بتحوله إلى طائفة لم يخسر معركة فحسب، ولكنه خسر الحرب، وأفشل إمكانات ظهور كل سياقات التغيير الممكنة.
كل محاولات التغيير اللاحقة سوف تقاس على طبيعة خطابه، وما اتخذه من سياقات تضعه في مواجهة هواجس طوائف محددة قبل أن تجعله منسجما مع طموحات أكثريات مغلوبة. كل هذا لن يسمح سوى باعتباره واحدا من الطوائف المستجدة التي لا يمكنها أن تنتزع لنفسها حيزا في ظل التركيبة الحالية.