رفضت السلطات القضائية المختصة بالانتخابات التشريعية المصرية، الطعن المقدم من المهندس أحمد عز، نائب البرلمان المصري ورئيس لجنة الخطة والموازنة سابقا، وعضو المكتب السياسي للحزب الوطني الديمقراطي سابقا، ورجل صناعة الحديد والصلب ومواد البناء الأكبر سابقا وحاليا. ورغم أن قرار السلطة القضائية قد أقفل ملفا سياسيا مهما، وأنهى موضوعا للانقسام السياسي في مصر، فإنه من الصعب القول إن قصة المهندس وأقرانه قد وصلت إلى نهايتها بعد، بل على الأرجح أنها سوف تفتح الباب لموضوعات شائكة كثيرة قد يقع في مقدمتها مدى أصالة الفكرة الليبرالية في مصر بشكل خاص، وأشقائها العرب بوجه عام. والحقيقة، أنني مع آخرين كثر، كنت من الناصحين بعدم التقدم إلى الترشيح في هذه الدورة النيابية؛ وكانت حجتي أن الوقت ليس مناسبا سياسيا فقط، مع تسليمي بمشروعية المحاولة؛ وإنما أن دوره كرجل ناجح في الصناعة والاقتصاد قد يكون أكثر فاعلية في الساحة السياسية منه كعضو في البرلمان. ولكن الرجل، وربما دون أن يقصد، وبغض النظر عن الحجج القانونية التي وضعها الحكم القضائي برفض محاولته للترشح، فإن ما ثار من مناقشات وحوارات وضعت الليبراليين المصريين في مأزق عميق. فما دام الاختبار الحقيقي لليبرالية هو القبول بالآخر، وحقه المتساوي في التعبير عن الرأي، والحصول على أغلبية التأييد من المواطنين حال الدخول في عملية ديمقراطية؛ فإن الرفض الباتَّ لوجود المهندس أحمد عز في الانتخابات كان سقوطا كبيرا في المصداقية «الليبرالية» لجماعات كثيرة راجت عنها، وروّجت عن نفسها، على أنها تمثّل الليبرالية الأصيلة في مصر. ولليبرالية تاريخ طويل في مصر يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر عندما تركت الحملة الفرنسية على مصر بعضا من آثار الثورة الفرنسية وأفكارها عن الحرية والمساواة. وبعد ذلك كانت بعثات الوالي محمد علي إلى أوروبا سببا في عودة المئات محملين بآخر ما أنتجته الحضارة الغربية من حداثة وليبرالية. وربما كان رفاعة رافع الطهطاوي هو أول من وضع البذرة الليبرالية في مصر، ولكن الشجرة من بعده شملت أحمد لطفي السيد، وطه حسين، وعباس العقاد، ومحمد حسين هيكل حتى وصلت إلى مفكّرين وكتّاب وأساتذة في الفلسفة والاقتصاد والعلوم الاجتماعية بوجه عام. ولكن الليبرالية رغم هذا التاريخ الطويل، كانت فكرة للنخبة أكثر منها تفكيرا لدى الجماهير؛ ولم تكن الممارسة السياسية في العصور المختلفة الملكية والجمهورية إلا مخلوقا مشوها لفكرة عظيمة. ومع ذلك فإن الفكرة جرى حملها جماهيريا ربما لأول مرة خلال ثورات ما عرف بالربيع العربي، حيث بدت حالة كلاسيكية في الثورة على الطغيان. ورغم أن المجتمعين في ميدان التحرير تعددت مشاربهم الفكرية، وربما كانت في الأغلب جانحة نحو اليسار، فإن التأكيد المستمر على «حقوق الإنسان» منحها بعدا ليبراليا ثبت بعد ذلك أنه لم يكن من الأصالة بحيث يحول دون استيلاء جماعة الإخوان الفاشية على الحكم ببعض المعاونة من تنظيمات وجماعات «ليبرالية». مضى الزمن على أي حال، وانقسم «الليبراليون» الجدد إلى جماعة أعادت طرح «الليبرالية» في مواجهة ما سموه «حكم العسكر»؛ بينما ذهبت جماعة أخرى إلى تأييد وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي باعتباره مع القوات المسلحة المصرية، الصخرة التي يمكنها الوقوف ضد الإرهاب وجماعة الإخوان الفاشية. ولكن المدهش أن ما جمع الجماعتين كان الوقوف سياسيا وفكريا ضد مشاركة المهندس أحمد عز في الانتخابات النيابية، باعتبار أن ذلك يمثل عودة لنظام مبارك مرة أخرى. المعضلة هنا أن الليبراليين الجدد، وهم ذاتهم الثوار المحدثون، كانوا بهذا القرار يضعون علامات استفهام كبرى، وتساؤلات صعبة، حول مدى التأثير الذي أحدثته الثورات المصرية المتعاقبة على المجتمع المصري بحيث يمكن إعادة نظام قديم مرة أخرى. وفي بعض الأحيان بدا الهجوم على الرجل ورفض مشاركته في العملية الانتخابية كما لو كان دفاعا، ليس عن الثورة من هجوم الثورة المضادة، وإنما كان خوفا من أن يبدو الأمر وكأن «الثورة» لم يكن لها داعٍ في المقام الأول. فالحقيقة أنه لم يكن ممكنا فصل الحدث الخاص بتقديم المهندس أحمد عز أوراق الترشح في الانتخابات التشريعية، وحتى رفض طعنه في حكم المحكمة الخاص برفض ترشيحه لأسباب إجرائية عددتها؛ كل ذلك لم يمكن فصله عن كثير من التطورات التي جرت خلال السنوات الأخيرة وألقت بظلالها على الموضوع. فبعد براءة مبارك وأقرانه من اتهام قتل المتظاهرين، ثم بعد أربع سنوات من الثورة ثبت أن الاتهامات المالية التي وجهت للرجل لم تستند إلى أساس، بل إن الوقائع أشارت إلى أن موضوع استعادة أموال مبارك بات أساسا للتربح «الثوري»؛ وبعد المحاكمات العدة للطاقم الذي عمل مع مبارك، فإن الأحكام جاءت في أغلبيتها الساحقة بالبراءة، وفي النهاية فإن القرائن كثرت، كما أشرنا في مقال سابق، إلى أن موضوع «التوريث» بأكمله لم يكن له ظل من الحقيقة. هذا وغيره جعل الاختبار الليبرالي قاسيا لأن محاولات منع الرجل من الترشح استندت إلى أبعاد سياسية مع «الآخر» الذي لا تقوم ليبرالية دون الاعتراف به وحرياته العامة وحقه الأصيل كمواطن في مباشرة حقوقه السياسية، ومن بينها الحق في التعبير من خلال وسائل الإعلام. إلا أن المخاطرة الأكبر التي ارتكبها «الليبراليون» كانت أن الاعتراض على حق المهندس أحمد عز في الترشح للانتخابات التشريعية، سوف يفتح الباب فورا للاعتراض على مواطنين آخرين لأسباب أخرى غير تلك التي تلقى على عاتق النظام القديم البائد. فعندما قدمت مواطنة مصرية أوراقها إلى الترشيح إلى مجلس النواب، فإن الاعتراض الجاهز فورا كان أنها «راقصة» (ثبت بعد ذلك أن مهنتها هي الغناء)، ومن ثم وجب منعها لاعتبارات أخلاقية تمس عادات وتقاليد المجتمع. سكت «الليبراليون» عن هذا الموضوع، بعد أن أضاف الجمهور «ولكن» جديدة على عملية الاختيار الشعبي، والتي لا تميز في الأصل لا قانونا ولا دستوريا بين المرشحين على أساس المهن المعترف بشرعيتها في المجتمع. ولا أدري ما الذي جرى للمواطنة، ولكن المسألة المبدئية هنا جرى جرحها عندما دخلت «العادات والتقاليد» جنبا إلى جنب مع القيم الليبرالية المصرية «الحديثة»، سقط الليبراليون الثوار في الامتحان الديمقراطي، كما سقطوا من قبل في اختبار الثورة، وتشير تجربتهم في بناء الأحزاب السياسية، والقوائم الانتخابية، إلى فشل مزمن؛ ربما كان هو خلاصة التجربة الليبرالية المصرية من القرن التاسع عشر وحتى القرن الواحد والعشرين. *نقلا عن "الشرق الأوسط"