2015-10-10 

الانفجار من الشرق

عبد الله السناوي

أمام هوس العبوات الناسفة لتعطيل أى أمن وإثارة كل ذعر فإن آخر ما تحتاجه مصر أن تفقد ثبات أعصابها وتتورط فيما لا يصح أن تتورط فيه. بكلمات مباشرة فإن الحكم الذى أصدرته محكمة الأمور المستعجلة بالقاهرة باعتبار حركة حماس "إرهابية" مربك تماما للعمليات العسكرية فى سيناء ضد تمركزات الجماعات التكفيرية ومدمر فى الوقت نفسه لأية أدوار مصرية محتملة فى محيطها. الكلام فى السياسة لا فى القانون.. فى الأمن القومى لا فى حيثيات الأحكام. لم يعهد فى أى وقت ولا فى أية دولة أخرى أن تكفلت الأحكام القضائية بإصدار لوائح المنظمات الإرهابية، فهذه من أعمال السيادة التى تتولاها السلطة التنفيذية وحدها. لأسباب سياسية قرر الاتحاد الأوروبى رفع اسم "حماس" من لائحة التنظيمات الموصوفة بالإرهاب، لم تتدخل جهة قضائية واحدة فى إدراجها على اللائحة ولا فى رفع اسمها. فى الحالتين تصدرت متطلبات المصالح المتغيرة كل شىء آخر. القضية ليست فى نوايا أصحاب الدعوى ولا فى نصوص الأحكام، فباليقين ارتكبت حماس أخطاء قاتلة لم يكن يصح لطرف فلسطينى أن يتورط فيها أو أن يقدم عليها فى الصراع الداخلى المصرى. القضية فى الآثار السياسية فكلها أشبه بكوارث تنذر بانفجار من الشرق من على خط الحدود مع غزة المحاصرة بقسوة. فى اللحظة التى صدر فيها الحكم المستعجل وجدت مؤسسات الدولة السيادية والتنفيذية نفسها أمام أحد خيارين قاسيين. الخيار الأول، أن تتجاهل الحكم القضائى كأنه لم يصدر وأن تمضى فيما تعتمده من سياسات وتفاهمات دون نظر إلى حرف واحد فيه، وهذا الخيار هو الأرجح تماما. هناك تفاهمات أمنية مع حماس لا تملك السلطات المصرية أن تشطبها بجرة قلم أو أن تغلق ملفاتها كأنها لم تكن، فهذه مسألة أمن قومى على درجة عالية من الأهمية والخطورة أثناء حرب ضارية مع الإرهاب فى سيناء. وهناك أدوار وساطة تتولاها نفس السلطات بين الفصائل الفلسطينية المتنازعة للتوصل إلى إنهاء الانقسام الفلسطينى الذى ينال من الأمن القومى المصرى بقدر ما يصيب القضية الفلسطينية بضربات قاصمة، والتخلى عنها يعنى بالضبط تهميش الدور المصرى فى أكثر الملفات العربية ارتباطا به. بمعنى آخر فإن قطع الصلة مع حماس دعوة للتهميش لا الحضور فى ملفات المنطقة ودعوة أخرى لتقويض أية رهانات عربية على أية أدوار مصرية مستقبلية فى إقليم تتنازعه الزلازل والبراكين والفتن وكما لم يحدث فى تاريخه كله. تقليديا ينظر العالم العربى للقضية الفلسطينية على أنها فلسطينية أولا ومصرية ثانية وعربية ثالثا. وهذا صحيح إلى حد بديهى ويرتب مسئوليات تدخل كلها فى اختيارات السياسة لا فى أحكام القضاء. من أول مقتضيات لعب دور فى المنطقة أن تكون هناك سياسة مقنعة أو شبه متماسكة فى القضية الفلسطينية وحماس طرف رئيسى فى معادلاتها الحالية. الأخطاء التى ارتكبتها لا سبيل لتسويغها غير أن تلخيصها فى الانتساب لجماعة الإخوان المسلمين يخل بوجهها الآخر كحركة مقاومة قاتلت ببسالة القوات الإسرائيلية فى أكثر من مواجهة وألهمت العالم العربى شىء من الكبرياء. خلط الأوراق قد يدفع بأصحاب النوايا الحسنة أن يجدوا أنفسهم فى الخانة الإسرائيلية، فإذا كنا نقول عن المقاومة إنها إرهابية فما الذى يمكن أن يقوله الإسرائيليون؟ دمغ المقاومة بالإرهاب يوفر الغطاء السياسى للتنكيل بالفلسطينيين وإحكام الحصار على غزة، وهو ما ينذر بانفجار من الشرق فى وجه مصر وأمنها فى سيناء. وقد تعالت فى العالم العربى قبل الحكم المستعجل أصوات تحذر من مثل هذا الانفجار تحت وطأة الحصار على غزة وأزمة معبر رفح. المعنى أن ما هو معقد ازداد تعقيدا وما هو حساس دخل حيز الخطر الداهم. الخيار الثانى، أن تقدم مؤسسات الدولة السيادية والدبلوماسية والسياسية على الالتزام بمقتضيات الحكم المستعجل، وهذا مستبعد كليا فى أى حساب وتحت أى اعتبار، فالملف أكثر تعقيدا من أن يلخصه مشهد واحد تورطت فيه حماس، والملف الفلسطينى مسألة أمن قومى تطرح تحدياتها منذ أربعينيات القرن الماضى حتى اليوم ولعقود طويلة مقبلة. بين الخيارين المرجح تماما والمستبعد كليا ارتبكت مؤسسات الدولة، فلا عرفت أين مواضع أقدامها ولا كيف تتصرف فى التداعيات الخطيرة التى وقعت فوق رأسها دون تحسب أو انتظار. لم تأخذ الدعوى القضائية على محمل أى اهتمام، وهذا بذاته دليل تراخ وسوء تقدير للعواقب. والهيئة القانونية التى تمثل الدولة أمام المحاكم انضمت إلى الدعوى من تلقاء نفسها، وهذه فوضى فى إدارة الدولة والعلاقات بين مؤسساتها. فوجئت مؤسسات الدولة بالحكم القضائى المستعجل وبدت شبه عاجزة عن مخاطبة رأيها العام، فلا أوضحت موقفها أمامه ولا أخبرته كيف سوف تتصرف وعلى أى أساس وطبقا لأى مصلحة وطنية. المثير أن الذى تود أن تقوله عكس ما يتردد فى الإعلام بصورة جذرية، فالإعلام أغلبه يعبئ ويحرض دون روية وتفكير، وهذا أسوأ ما يمكن أن تتعرض له أمة. عندما تتهدد الأخطار المحدقة المصالح الوطنية العليا دون أن يجرؤ مسئول واحد على الكلام فهذا عار كامل. ورغم أية اعتراضات جوهرية على الآثار السياسية الخطيرة للحكم المستعجل فإن تجاهله خطأ فادح، فمن الأليق بدولة تنسب نفسها للقانون أن تطعن عليه وأن تسرع فى الوقت نفسه بإصدار تشريع يمنع طرح الأمور المتعلقة بأعمال السيادة على القضاء، فهذه ليست مهمته ولا هذا دوره. الظاهرة مرشحة للتوسع، فمن المنتظر فى أبريل المقبل أن يصدر حكما مستعجلا آخر فى دعوى مشابهة تطلب اعتبار كل من تركيا وقطر دولتين إرهابيتين، وهذه كارثة متكاملة الأركان بأى معنى سياسى دولى يقوض النظام الجديد وقدرته على الحركة والتصرف فى ملفات المنطقة ويحرجه أمام دول الخليج والعالم كله. نعم هناك شكوك قوية فى تورط تركى وقطرى بدعم وتمويل تنظيمات تكفيرية تحارب فى مصر لكن لم تنهض عليها أدلة ثابتة ونهائية. وقد تجنبت الرئاسة المصرية قطع العلاقات الدبلوماسية مع البلدين لأسباب تتعلق بإدارة الصراع وسبل كسبه على مدى زمنى معقول فإذا بها قد تجد نفسها أمام أحكام قضائية تفضى موضوعيا إلى إعلان الحرب، وهذا خارج كل حساب واعتبار. إذا ما صدرت أحكام مماثلة بحق قطر وتركيا فما الذى يمنع مستقبلا من دمغ دول أخرى فى المنطقة والعالم، والشهادات والوثائق متوافرة، بدعم الإرهاب؟ القائمة قد تضم الولايات المتحدة ودول رئيسية فى الاتحاد الأوروبى ودول إقليمية بعضها تربطنا بها صلات وثيقة. كأى لعبة بلا قواعد فإنها قد تتحول إلى مأساة كاملة، نخسر حيث يجب أن نكسب ونستدعى الانفجار من الشرق حيث الحرب على الإرهاب مشتعلة. *نقلا عن "الشروق" المصرية

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه