ما من شك إن المظالم التاريخية التي تدفع باستمرار العداوات وتنعش الذاكرة بأحداث أليمة تعوق أي فرص لتحقيق تسويات سلمية وتثبط من جهود التعافي والتجاوزات الانسانية والأخلاقية في سبيل بناء مجتمعا أفضل ، وتجاوزاً لتلك المعضلة تُطرح فكرة "الغفران السياسي" كآلية للقفز فوق تلك المظالم التاريخية بشكل يُحقق المصالح الاستراتيجية للدول المتعادية، خاصةً وأن هناك نماذج تاريخية ناجحة في هذا الإطار يمكن تعميمها.
لكن هل ينجح الغفران السياسي كآلية للسلم الدولي في ظل تغليب العداء العميق على المصالح الهامة؟ هذا السؤال ترتبط إجابته بمدى قدرة الدول أو الجماعات على التوفيق بين مواقفها التاريخية، ووضع العداوات القديمة جانبًا، والتركيز على ديناميات التعاون بما يخلق منفعة متبادلة للطرفين.
إن مسألة الغفران السياسي ليست حصراً على الدول بل يشترك في مضمونها الشعوب، ذلك إننا إذا ما انتقلنا من المفهوم الأوسع إلى المفهوم الأضيق فإننا نعني به الغفران الشخصي باعتبار أن الدول بالأساس مكونة من أفراد لا بد أن تكون لديهم قابلية لفكرة التسامح أو الغفران السياسي. وهذا لن يتأتى إلا بوجود حلول عادلة تجعل الجناة تتم مساءلتهم، بالإضافة إلى وجود اعتذار حقيقي عن أي إساءات قد تمّت في الماضي.
وتعتبر ألمانيا نموذجًا واقعيًّا لمسألة الغفران السياسي في ظل المصالحة معها بعد الحرب العالمية الثانية خاصةً وأنها كان لديها سجل حافل من الجرائم ضد الإنسانية وتوجهت لدفع تعويضات عن الذين سقطوا أثناء المرحلة النازية في عهد هتلر، وأُعتبر هذا التوجُّه بمثابة حجر الزاوية في تشكيل جمهورية ألمانيا الاتحادية في خمسينيات القرن الماضي على يد المستشار "كونراد أديناور" ومجموعة من السياسيين الألمان البارزين الذين اعتبروا ذلك الموقف واجبًا أخلاقيًّا. وإلى جانب ذلك فإن هذا التوجُّه الألماني ارتبط أيضًا بجملةٍ من المصالح الاستراتيجية، بدءًا من إنعاش الاقتصاد المتدهور، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلدٍ دمر بالكامل. وبالتالي فإن المصالحة اعتبرت إجراء هامًّا من أجل عودة ألمانيا من جديد إلى المجتمع الدولي، وتغيير صورتها الذهنية. ولذا فإن ألمانيا تُعتبر الأكثر استثنائية في تاريخ الغفران السياسي، خاصة وأنها باتت وفق استطلاعات الرأي العالمية الأخيرة واحدة من المساهمين الرئيسيين في تحقيق السلام والاستقرار الدولي.
وتجربة المصالحة اليابانية الكورية تعد هي الاخرى قصة نجاح من قصص وتجارب الغفران السياسي، حيث كانت العلاقات التاريخية بين اليابان وكوريا الجنوبية سيئة للغاية لاحتلال اليابان كوريا فترة طويلة امتدت من عام 1910 حتى عام 1945، لكن اليابان خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية قامت بتقديم اعتذار مدعوم شعبيًّا للانتهاكات التي تمّت في زمن الحرب، وقامت الدولتان بتوحيد مواقفهما وتجاوز العداوات التاريخية وتحقيق التوافق الاستراتيجي ضد الاستفزازات الكورية الشمالية مؤخرًا، وكذلك مخاوفهما المشتركة بشأن عودة الصين، حيث وجدت الدولتان في تحدي كوريا الشمالية المتصاعد للقانون وللمجتمع الدولي والتهديدات النووية المعلنة وزيادة القوة والهيمنة الصينية، ضرورة لإقامة شراكة استراتيجية بينهما قائمة على تجاز الماضي بكل مآسيه.
وعلى المقلب من الغفران السياسي الذي مارسته بعض الدول ،فقد بقيت جرائم كبرى لم يتم تقديم اعتذار حقيقي عنها، ومنها الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث تم ذبح حوالي (800) ألف من التوتسي والهوتو خلال مائة يوم فقط، علاوةً على اغتصاب أكثر من مائتي ألف من الإناث، وهي كارثة إنسانية كبرى لم يقم المجتمع الدولي آنذاك بالجهد الكافي من أجل منع حدوثها.
وحسبما اوردت السفيرة الأمريكية "ويندي شيرمان" التي تشغل منصب كبير الباحثين بمركز بليفر للعلوم والشئون الدولية التابع لجامعة هارفارد، في دراستها المعنونة "الغفران السياسي: بعض التأملات الأوليّة"، فإن مفهوم المصلحة يُعتبر محوريًّا فيما يتعلق بإمكانية نجاح مسألة الغفران السياسي عن العداوات التقليدية والتاريخية بين الدول من عدمها، فعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة بين دول مثل الولايات المتحدة وفيتنام ، فإن هناك إرادة حقيقية نحو تعزيز المصالح الاستراتيجية بينهما. وكذلك رغم السلام البارد بين باكستان والهند اللتين خاضتا ثلاثة حروب، فإن الجارتين النوويتين بدأتا تعزيز التعاون التجاري بينهما.
وتبقى مسألة الاقناع بجدوى الغفران السياسي في تعزيز استقرار واستدامة المجتمعات مسؤولية تقع على عاتق الباحثين وصناع القرار في العالم و النظر إلى الكيفية التي يُمكن من خلالها أن يتحول فيها الغفران السياسي إلى مبدأ يُمكن من خلاله تنظيم الشئون الدولية، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين.