منظر حرق الطيار الأردني من قبل داعش صدم الكثيرين. نعم فعل صادم، ولكن على أي كوكب تعيشون؟ هل تعاطفنا مع ضحايا القتل بطرق وحشية هو بسبب هوية القاتلين، أم بسبب طريقة قتلهم؟ جميل كمّيّات الرحمة والشفقة والتعاطف التي ظهرت عند العرب وغيرهم تجاه الطيار الأردني. وأتمنى ان تتعمق وتنتشر. ولكن اتساءل لماذا يثير قتل شخص واحد بطريقة استعراضية ارتكاسات أكثر بكثير من قتل المئات والآلاف بطرق ممنهجة وآلية؟ هل البشر يتفاعلون مع قصة فرد أكثر من تفاعلهم مع قضية شعب؟ هل لأن الوجه الإنساني أكثر تأثيرا من أرقام رياضية مجردة؟ من الواضح أن هناك حاليا على الكوكب معايير في "القتل الأنيق" و"القتل الهمجي." هل قصف المدن بطائرات حربية في غزة وحوامات تنزل البراميل في حلب من الطرق الأنيقة يا ترى؟ كان الرئيس الأمريكي أوباما والمصدوم بتصرفات داعش حاليا يهلل في الصيف لقصف غزة، ورغم صمته على البراميل لكنه قرر أن الكيماوي خط أحمر. أليست صادمة صور أحد عشر ألف معتقل سوري ماتوا تحت التعذيب الممنهج والتجويع في مناظر تذكر بمعسكرات الاعتقال النازية؟ أليست صادمة صور عائلات بأكملها تنتشل من تحت الانقاض؟ معظم الناس ينظر إلى داعش بأنها منظمة إرهابية. نعم، من السهل كراهيتها، وكراهية كل ما تقوم به. فهل يعني هذا أن داعش لو امسكت طيارا اسرائيليا يقصف مدنا عربية وأحرقته سيصبح شهيدا بنظرنا ونترحم عليه ونعزي أهله؟ فلنكن صريحين قليلا مع أنفسنا. كيف نقيس الأشياء؟ من الشهيد، ومن الضحية؟ خذوا وقتكم! فالأسئلة الصعبة تتطلب وقتا وهدوءا وصدقا. هل معاييرنا على هذا الكوكب قبلية أم أنها قانونية وأخلاقية؟ هل الإرهابي هو من "نكرهه" فقط؟ فيلم "القناص الأمريكي" الذي يعرض مؤخرا عالميا يدور حول قصة حقيقية عن قناص أمريكي عمل على قتل العراقيين، وتدور الأحداث حول بطولاته في قتل "الارهابيين" داخل وطنهم، وهو القادم من قارة بعيدة. من الإرهابي هنا؟ لقد نجحت داعش في رسم نفسها بأنها الأكثر إرهابا ورعبا في المنطقة بينما كمية القتل التي مارستها وتمارسها الأنظمة القمعية لا يمكن مقارنة ارقامها ومستواها ومنهجيتها بجرائم زعران مهما كانت مثيرة واستعراضية. لماذا نقع في ارتكاسات عاطفية شديدة لما نرى عملا شنيعا واحدا ونتغافل عن مئات الآلاف الذين يموتون حرقا وتفجيرا في العراق وسوريا وفلسطين؟ معظم الأنظمة العربية والاستعمارية تقوم بأقسى أساليب القمع بينما تضع قناع العلمانية والمدنية والرقي على وجهها، ولهذا يفيدها كثيرا ظهور داعش كجهة متوحشة دينية متطرفة في المنطقة. فداعش تريد أن تظهر بهذا المظهر، وآخرون يفيدهم أن تظهر هكذا. والتعذيب والبراميل وقتل المدنيين؟ ما هذه؟ هل هذه حلول "وسطية" لمطالب جماهير تريد أدنى درجات سبل العيش الكريم والآمن؟ لماذا نحصر التطرف بجهات وليس بتصرفات؟ فمثلا بعد حرق الطيار الأردني صارت عدة ارتكاسات أظهرت أننا فعلا نتشابه كثيرا على هذا الكوكب. فالأزهر "الوسطي" أراد أن يبعد نفسه عن داعش والتطرف فأصدر فتوى بالصلب وتقطيع الأيدي والأرجل لأعضاء داعش. حل معتدل ويتماشى مع آخر ما تفتق عنه الفقه التقدمي. وأما المملكة الأردنية الهاشمية فإنها قامت مباشرة بإعدام عناصر من القاعدة عندها من عام 2006 ومن بينهم ساجدة الريشاوي بعد أقل من أربع وعشرين ساعة من حرق الطيار كرد لداعش. وأمريكا زعيمة الحضارة الإنسانية نددت وشجبت وأصدرت بيانات تؤكد فيها بأنها ستكثف حملاتها في الحرب على الإرهاب وتتابع القصف والقتل. مؤسسة دينية، ومملكة وقوة عظمى ليس عندهم حلول افضل مما عند "الإرهابيين." القتل والتقطيع والاعدام والقصف. الإرهاب ليس صنيعة دين أو ثقافة معينة. هو تفريخ بشري بامتياز. وأدوات الإرهاب تبدأ من البيت من تقطيب الجبين في وجه الطفل وتنتهي بالقنابل النووية بيد الدول العظمى، وبينهما تقع الكثير من الخيارات من شتائم وعصي وقاذفات واسحلة كيماوية وخناجر وعود ثقاب لا يستغني عنه أصحاب الخيال الواسع. وأتوقع أن بعضا منكم يقرأ هذا فيخطر على باله حرقهم كلهم "قشة لفة!" أهلا بكم على كوكب الأرض! إلإنسان مخلوق فنان. وقوده الخيال، وانتاجه الخيال. تحركه أوهام، ويستعرض انتاجه الوهمي أمام الغير. يستطيع أن يبدع نحو الخير وايضا نحو الشر. ولكنه في الحالتين يحتاج لـ"آخر." فلن يستعرض إنسان قدرته على التخويف بدون جمهور ولن يقدر على الخير بدون من يخدمه ويحبه. في محاولة الإنسان إزالة الآخر فإنه من حيث لا يدري يتوسل إلى هذا الآخر بالاعتراف بهمينته. لا يمكن أن تكون هيمنة بدون آخر، تماما كما لا يمكن أن يكون حب بدون آخر. وهنا المفارقة في علاقات الإنسان. في النهاية فإن الإنسان حتى عندما يسقط في اسفل سافلين يكون متطلعا إلى الاعتراف به— بأنه ذو شأن. ولكن إن نجح فعلا وقتل من حوله، من سيبقى ليهتف بحياته أو يخشاه؟ حتى في تدميرنا فإننا نبحث عن الآخر. وعندما نكتشف هذا السر سنكتشف أن التدمير يستهلكنا بينما نحن نبحث عن التواصل –عن الاعتراف ببعضنا وبمساواتنا، وعندها فقط سنبدأ الزحف من هذا النفق المظلم الذي علقنا فيه جميعا.