كشفت السنوات التي اعقبت عاصفة الربيع العربي وما خلفته من خسائر في الأرواح البريئة مقابل الاستحقاقات السياسية لصالح بعض القوى الدينية والسياسية وانحسار غيرها عن عمق مشكلات الشباب العربي والحيرة التي يعانون منها والفراغ، مما جعلهم صيدا سهلا لتيارات وتنظيمات التدين السياسي.
ان الشباب وبحكم المرحلة السنية مسكون بالقلق والشكّ وبالرغبة في الفهم والمعرفة، وأحياناً بالتمرّد والجنوح نحو الاختلاف، والكثيرون من هؤلاء الشباب لديهم هواجس عميقة حول معنى الحياة وسبل تحقيق الذات والأدوار المتوقَّعة منهم في المجتمع. لكن للأسف معظم هذه الأسئلة لا يلقون اجابات وافية عليها من مؤسّسات الأسرة والهيئات الدينية والتعليمية والثقافية وغيرها ممن تقع عليها مسؤولية إقناع جيل الشباب بسلامة القيم والأفكار والنُـظُـم والممارسات السائدة في المجتمع وجدواها.
من هنا تستغل التنظيمات السياسية والدينية المتطرفة الخواء الفكري والفراغ المعرفي الذي يعاني منه الشباب في بلداننا العربية وتسعى الى تلقيمهم وبشكل مكرر ومقنع اجابات محددة ومختصرة بشأن سائر الأمور التي تشغل اهتماماتهم، أو تكون محلّاً للتساؤل والنقاش من جانبهم. ومعلوم ان التطرف يبدأ أولاً كفكرة في العقل ثم يتحوّل من خلال الانخراط في تنظيمات تقوم على السمع والطاعة والانقياد المطلق للزعيم إلى ممارسة العنف.
لكن السؤال لماذا يحدث الفراغ بين الشباب رغم كل ما توجه اليه الحكومات والقيادات العربية من دعم للطاقات الشبابية واحتوائها ، فنرى بعض الدول طيلة السنة تغدو ورشة عمل من المؤتمرات والفعاليات والمسابقات الشبابية وما أن ينفض سامرها تغادرها الوفود ويعود شبابها لنفس دائرة الانشغال بتنظيم الدورات اللاحقة من المؤتمرات والفعاليات دون ان تبارحهم ذات الأسئلة والهواجس عن جدوى وجودهم في الحياة وفرصهم الضائعة للارتقاء ، واستمرار حيرتهم حول كثير من القضايا والمسائل دون جواب!
وتكاد تكون مشكلات الشباب ثابتة لا تتغير في اغلب الدول العربية بمن فيها الدول الخليجية يتصدرها قضايا البطالة والفقر وتدنّي مستويات المعيشة، ما أدّى إلى التأخر في سنّ الزواج وبروز ظاهرة العزوبية أو العنوسة بين الشباب والهجرة الشرعية وغير الشرعية وعدد لا حصر له من الطاقات المهدرة والكفاءات المهٓجرة.
ولمٓا شاخت كثير من مؤسسات التنشئة وعجزت عن تحقيق التواصل بين الأجيال والحفاظ على السمات الرئيسة لهوية المجتمع من خلال نقل قيمه الأساسية إلى جيل الشباب وأضحى مضمون رسالتها بالياً وغير ذي معنى. فالنتيجة هي نمو الفراغ في العقول ونشوء حالة من القطيعة بين الشباب والمجتمع، فيؤدّي ذلك كما تشير نتائج البحوث إلى فقدان الأمل في المستقبل وغياب ثقافة المواطنة وضعف التعلّق بالأوطان، وتعمّقت هذه المشكلة مع استخدام الشباب المكثَّـف لأدوات التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا المعلومات التي وفَّرت لهم فرصة التعبير عن آرائهم والتفاعل فيما بينهم ومع الآخرين في العالم، وجعلتهم يشعرون بمعنى الحرية ويتمتّعون بممارستها.
من هنا يتطلّب الأمر تواصلاً أكثر انتظاماً وجدِّية مع الشباب، وأن يأخذ هذا التواصل في الحسبان أهمّية أن يشعر الشباب بأنّهم موضع اهتمام ومحلَّ ثقة من أعلى مستويات السلطة في بلادهم، وأنه توجد قنوات اتصال مفتوحة مع الهيئات المعنيّة بشؤونهم، وأن هناك فهْماً وإدراكاً لمشكلاتهم وتعاطفاً معهم من قبل صنٓاع القرار و الأجيال الأكبر سنّاً وصولا الى احتضانهم فعلياً وتمكينهم من تنفيذ السياسات التي تخص شؤونهم بانفتاح لا مجرد إبراز عنصر او عنصرين على السطح الاعلامي فقط!
إن أفكار التدين السياسي شأنها كشأن اي فكرة لا تهزمها سوى فكرة اخرى مغايرة عنها لها مرتكزاتها التي تَقُوم على إحياء قيم الاعتدال والوسطية والتسامح التي كانت سمات مميِّزة للفكر الإسلامي في عصور النهضة والازدهار، وذلك لا يتحقق عن طريق الوعظ والتثقيف فحسب، بل يتطلَّب أن تُـقْـدِم النظم العربية على إصلاح مؤسّساتها وإعادة تأهيل ثقافتها، بغية جعلها أكثر انفتاحاً وشفافيةً، وأن يكون ذلك أساساً لتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ففي النهاية الشباب جزءٌ من مجموع الشعب ويتأثّر بالإصلاحات السياسية والاجتماعية القائمة .