حتماً إني لا اقصد سياسة الجوع التي تناقشها منظمات الأغذية الدولية وما يتعلق بأزمة ندرة الطعام في بعض اقطار العالم ، إنما أعني بالجوع السياسي المفهوم الجديد الذي يقصد به سلوك الجماعات والدول التي ترغب في التهام أنظمة الحكم سواء في نطاقها أو خارجه. ومن هنا يكون مفهوم الجوع لا يفسر فقط أطماع الجماعات داخل الدولة في التهام الدولة، بل أيضا يفسر سلوك الدولة تجاه جيرانها ومحيطها الإقليمي، كما في حالة «حزب الله» في لبنان، والحوثيين في اليمن.
وقد يصل الجوع السياسي إلى اقصاه عندما تبتلع دولة لدولة أخرى ، أو تسعى لإضعافها كي تشبع جوعها ورغبتها في التأثير، كما حدث في حالة الغزو العراقي للكويت وما تفعله الآن ايران في العراق وسوريا ولبنان .
ويأخذ فعل الجوع السياسي أبعاد اخرى حين تتعامل الدول المتضررة منه بمهادنة وترجح خيار التفاوض مع جماعاتها المعارضة داخليا، فتتنازل الحكومة بشيء للمعارضة لتأخذه لكن بسبب الجوع تطلب المعارضة أكثر فأكثر كما لو أنها مُنحت اليد فتطلب الذراع !
في خضم فوضى الربيع العربي دول كثيرة أبتليت بجماعات معارضة متعطشة للزعامة وسعت إلى بسط سيطرتها على الدولة وإزاحة من يخالفها ، إذ بدأت أولا بعرض مرشحيها في الغرف البرلمانية وأدعت الاكتفاء بالمشاركة التشريعية، لكن جوعها دفعها بعد ذلك إلى الترشح للرئاسة، ومن ثم السيطرة على كافة مفاصل الدولة دون أن تترك فرصة المشاركة لغيرها من الجماعات والاحزاب السياسية في ممارسة الحكم ،وهذا ما جعل تلك الجماعات يخسروا كل شيء بعدما انتفضت الاطياف الاخرى عليهم وكبحت جماحهم . والمثل حاضراً في قصة صعود وهبوط حكم الاخوان بمصر، وانتفاضة الاتحادات والنقابات العمالية في تونس على حزب النهضة مما دفعه مؤخرا لأن يغير سياسته ويعلن عن اتجاهه لفصل الدين عن السياسة في نشاطه، مبتعدا عن التقليد الذي يحكم أحزاب الإسلام السياسي، والنهاية المدوية لجمعية الوفاق اكبر الجمعيات المعارضة في البحرين وحلها وفقا لقرار قضائي بعدما عرقلت مسيرة الديموقراطية في هذه المملكة الخليجية إثر مقاطعتها انتخابات 2014 و انسحابها من البرلمان قبل ذلك وتصعيد مطالباتها التي تجاوب نظام الحكم معها فتمخض ذلك عن دستور جديد واعادة توزيع دوائر انتخابية وكذلك منح البرلمان صلاحية مسائلة الحكومة ،لكن برغم كل هذا التجاوب السياسي آثرت الوفاق مدفوعة بالجوع السياسي الى التصعيد.
إن الجوع السياسي ما هو إلا مرض ينتهي بأصحابه إلى هاوية الجشع السياسي والسقوط المدوي ،وينبغي دراسة سلوك تلك الجماعات فالجسد السياسي للدولة كما هو الجسد البشري قد يدفعه الجوع إلى ارتكاب حماقات أو يصيبه بالتخمة فيموت، وإذا أكل اكثر من حاجته ولم يستطع المضغ حتما سيختنق ويموت. فلابد من مناقشة موسعة لمسألة الجوع السياسي في أروقة المؤتمرات الدولية والمنصات الحوارية السياسية والامنية الدولية لمعرفة الابعاد المعرفية و الاتجاهات التي تدفع نحو هذا السلوك في فكر الجماعات والدول سيما وان اكثر الدول المتضررة منه هي الدول الصغيرة التي تتعرض اكثر من غيرها للاستقطابات السياسية والتجاذبات ،ومن ثم وضع الحلول للتعامل مع نتائجه التي لا تكون سوى مدمرة وباهضة الخسارة