بعد أن صدر تقرير "لجنة تشيلكوت"، والذي أوضح أن نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين لم يكن يُشكّل خطرًا على المصالح البريطانية، وأن الحرب التي شنتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضد العراق في 2003 لم تكن ضرورية بالمرة، خرج رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "توني بلير" على الرأي العام العالمي بعد صدور التقرير في السادس من يوليو 2016، مُبديًا اعتذاره على ضلوعه في هذه الحرب. لكن اعتذار السيد بلير يخلو من تحمل أي مسؤولية لهذا الفعل وما تسبب فيه من كوارث وضحايا وتدمير للبيئة السياسية والأمنية العراقية.
واعتبرت الأوساط السياسية والإعلامية الدولية أن اعتذاره ما هو إلا محاولة شخصية منه لتجميل صورته أمام المجتمع الدولي كونه يدير مركزًا دوليًّا للاستشارات الحكومية، وقد كان ممثلا للجنة الرباعية الدولية قبل أن يستقيل العام الماضي 2015، ويقوم حاليًّا بدور الوساطة السياسية في العديد من القضايا الدولية.
وإذا كان اعتذار السيد بلير قد ارتكز على الاعتراف بالخطأ، فإنه افتقد لتحمل مسؤولية تبعات الحرب، بالتالي لا يعتبر اعتذارا سياسيا . فالاعتذار السياسي يتطلب أيضا تحمل المسؤولية و ابداء الندم العام .وذلك حسبما يشير اليه "جيرما نيجاش" في كتابه "أدبيات الاعتذار السياسي: الدول والتفويض بالاعتذار"، بأن الاعتذار السياسي هو إبداء الندم على مخالفة ما، وتقديم الشكر للطرف الآخر. مع ضرورة تجاوز هذه الممارسة محل الاعتذار، والتدليل على هذه التوبة بصورة ملموسة.
والملاحظ في المجتمعات الإنسانية إن ثقافة الاعتذار السياسي تأخذ عدة اشكال بحسب طبيعة المجتمع ، ففي المجتمعات التي تقدس القيم والاخلاقيات وتجعل لها نصيبًا من سياستها، نجد أن المسئول السياسي فيها يلجأ إلى الاعتذار في حال ارتكابه لخطأ معين، قد يصل إلى الاستقالة، بل حتى الإقدام على الانتحار، ويبدو ذلك جليا في مجتمعات الدول الاسيوية الناهضة وعلى رأسها اليابان.
أما في المجتمعات التي تفتقد للثقافة السياسية والديمقراطية فغالبًا ما ينظر المسئول السياسي فيها إلى المنصب الذي عُيّن فيه كونه تحصيل الجهد الذي بذله والعبقرية والذكاء اللذين يتميز بهما، وقدرته على نسج شبكة علاقات مجتمعية قوية، وليس كون الناخبين هم من وضعوا فيه الثقة وصوّتوا له لكي يُسهم في تغيير أحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يدل على ضعف النضج السياسي عند معظم الطبقة السياسية. اما النموذج الأكثر انتشارا هو استخدام المسؤولين السياسيين الاعتذار كنوع من الهروب عن المحاسبة ، في سبيل الاحتفاظ بالسلطة وتوسيعها، أو إحراج الخصوم السياسيين.
وتطبيقا على المجتعمات العربية نجد بأن ثقافة الاعتذار السياسي ليست متجذرة ونادرا ما يظهر مسؤول سياسي يتحمل مسؤولية الخطأ الذي اقترفه. ويعود السبب في ذلك أن مجتمعاتنا العربية تتسم فيها العلاقة بين الحاكم والمحكوم بالطابع الابوي ويكون فيها الخطاب السياسي مشبع بتعابير تُشبّه المجتمع بالأسرة، والحاكم بالأب، والمواطنين بالأبناء، وهذا ما يعزز في المسؤول السياسي شعوره بالسمو عن المواطنين ويدفعه بعيدا عن ثقافة الاعتذار حتى لو من باب المناورة السياسية. كما أن آراء الجماهير العربية لم تصل الى مستوى التأثير في عمليات صنع القرار وغير قادرة على النفاذ الى النخب السياسية ولا تستطيع ان تشكل قوى ضاغطة .وبالتالي فإن تلاعب النخب السياسية بالراي العام وتوجيهه نحو مبتغاهم مرده الى تعزيز الشعبية التي يتمتعون بها وجعلها ستارا يتوارون خلفه عن المواجهة والاعتذار في حال وقوع الخطأ وفعل المحاسبة.
ويذهب الكاتب محمد محمود السيد في مقاله المنشور بنشرة المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، أن الجماهير تظل عاجزة عن التأثير في منح المناصب أو سحبها من المسئولين السياسيين بمختلف مستوياتهم، لأن النخبة الحاكمة في المجتمعات العربية غالبًا ما تكون صاحبة الكلمة العليا في هذا الشأن. وعلى ذلك، يعول المسئولون السياسيون على استرضاء النخب الحاكمة، دون الجماهير، ولا يجدون أنفسهم مضطرين إلى الاعتذار لمن لا يملك عصمة مستقبلهم السياسي.
وعليه فإن ثقافة الاعتذار لن تترسخ إلا بترسيخ الممارسات الديموقراطية وعلى رأسها الشفافية والمحاسبة وتعزيز الحريات وحقوق الانسان . اما دون ذلك فإن ثقافة الاعتذار تبقى ضربا من الادبيات السياسية البعيدة عن واقع و مقتضيات البيئة السياسية العربية .