2015-10-10 

من ملك إلى ملك: وصايا عبدالله لسلمان

أحمد عدنان

ولا تدري نفس بأي أرض تموت أو متى، لكن يا ترى لو علم عبدالله بن عبدالعزيز بالموعد القطعي لأجّله، بماذا كان أوصى أخاه سلمان بن عبدالعزيز؟ لقد تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطعا مرئيا للعاهل الراحل يوصي فيه ولي عهده سلمان وولي ولي عهده مقرن بالشعب وبالدين، لكنني أعتقد أن عبدالله بن عبدالعزيز لم يسمح له الوقت بالتفصيل. في الشأن الداخلي، بلا شك، ستكون الوصية الأولى لعبدالله هي الاستمرار في دعم مشروع الابتعاث، فمئات الألوف من السعوديين الذين انتشروا في العالم، الهدف من إرسالهم لا ينحصر في التحصيل العلمي، ولا يقصد فقط تحسين شروطهم في مواجهة البطالة، فمشروع الابتعاث مشروع حضاري يستهدف الإصلاح الاجتماعي بمفهومه الواسع. إنه إصلاح العقول باتجاه التنوع والتمدن، هذا ما فعله ميجي في اليابان وفعله محمد علي باشا في مصر. حين نقيس مشروع الابتعاث يجب أن نزيح الأرقام جانبا وننظر إلى المستقبل وإلى العالم من حولنا. فالسعوديون يقدمون صورة جديدة ومشرقة لبلادهم بالتميز والابتكار، وأغلبهم أصبحوا سفراء شعبيين لوطنهم في مواجهة صورة الانغلاق والتشدد، ومنهم من حقّق خارجا ما عجز عن تحقيقه في الداخل، ومنهم من عاد إلى بلاده عنصرا إيجابيا -ولو بالأفكار وحدها- بعد سلبية مثبطة. إن مشروع الابتعاث قوّة ناعمة للوطن، واستثمار بشري مكاسبه هائلة بشكل مباشر وبشكل غير مباشر. وللدلالة على ذلك يكفي أن نستشهد بصراخ المتطرفين ضده. لذلك، يتوقع عبدالله أن يستمر مشروع الابتعاث مدعوما من سلمان، وأن يتصدى العاهل الجديد، شخصيا، لقوى الظلام المتربّصة بأبناء البلاد وبالمستقبل. وتستمر وصايا عبدالله، فالوصية الثانية في الغالب تتحدث عن المرأة، إذ يمكن وصف عهد عبدالله بعهد تمكين المرأة، أو بشكل أدق، خروجها من قمقم الحرملك إلى حديقة الحياة. والأمثلة على ذلك لا تحصى، من أبرزها تعيين د. نورة الفايز نائبا لوزير التعليم وإدخال النساء إلى مجلس الشورى. اهتمام عبدالله بحقوق المرأة يعود لعاملين وذلك لإيمانه بالعدل والإصلاح. فهناك حقوق تستحقها المرأة من منطق الإنسانية ومنعها باسم التمييز أو باسم الدين، عنصرية وظلم. كما أن تمكين المرأة يلغي تعطيل نصف المجتمع لتزيد الإنتاجية وتتحقق استقلاليتها الاقتصادية والاعتبارية، وبالتالي تتقلص المشكلات الناجمة عن عطالتها. والأهم من كل ذلك أن تمكين المرأة هو استثمار صريح في الأجيال القادمة. لذلك، ربما يتوقع عبدالله من سلمان أن يستكمل دعم المرأة بإدخالها إلى مجلس الوزراء ودفعها إلى نادي السفراء واستكمال إزالة قيود التمييز ضدها في الأنظمة ومحاربة تهميشها من بعض تيارات المجتمع وتقاليده. الوصية الثالثة، هي الاهتمام بمشاريع عبدالله، الشخصية كرعاية والوطنية كفائدة، والمعني هنا هي مبادرة الحوار الوطني وحوار المذاهب وحوار الأديان، إضافة إلى الواجهة الثقافية لوزارة الحرس الوطني أي مهرجان الجنادرية، وحلم الملك عبدالله الذي أصبح واقعا هو جامعة كاوست. الحوار الداخلي إن ظروف المنطقة، من الاستعمار الطائفي إلى محاربة الإرهاب، تفرض تعزيز الحوار على كافة المستويات لإذابة الأحادية والحدية، وفرض التنوّع كسنة حياة ظل غيابه يدمّر الحياة بأسرها. إن الحوار الداخلي اعتراف بالمواطنة، والحوار الخارجي استنهاض للسلام. وجامعة كاوست أطلقها عبدالله كطريق للعبور إلى التقدم العلمي. أما الجنادرية فقد لعبت دورا وطنيا متميزا، إذ ربطت المملكة بنخب العرب وكرّمت رواد البلاد، وشكّلت متنفسا ترفيهيا منعشا لزوارها، ولعبت دور مختبر الأفكار لقياس الرأي وتمهيد الإصلاح ودراسة الأزمات. لذلك، ربما ينتظر عبدالله من سلمان الامتنان لقيمة الجنادرية وتأكيدها، ورعاية جامعة كاوست لتحقق موقعها المنتظر “دارا للحكمة ومنارة للتسامح” وصد شبق المتشددين لابتلاعها. ومن جهة أخرى، إخراج الحوار من المراكز النخبوية والدوائر المغلقة إلى شرائح الناس وأنظمة الدولة، فيواصل الإعلام انفتاحه، وتصان الصحافة في نقدها، وتنتهي الوصاية من التعليم، ويتحرر القضاء من الأدلجة، وتمارس مجالس الشورى والمناطق والبلديات أدوارها الطبيعية في الحوار بلا محظورات، وبصلاحيات حقيقية، وبتمثيل شعبي أمين. ولن يزدهر الحوار من دون تحجيم أعدائه، وهم معروفون للقاصي والداني. الوصية الرابعة، هي الاهتمام بالقطاعات الحكومية التي سخر لها عبدالله مليارات الريالات وخيرة من رجاله لإصلاحها وتطويرها، والمقصود هنا التعليم والقضاء والصحة والإسكان وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.الملك سلمان تولى مقاليد العرش بعد زعامة تاريخية لقد قدم عبدالله مليارا تلو مليار لحل مشكلة الإسكان، لكن المواطن لم يشعر بالحل الجذري بعد، وعزز عبدالله وزارة الصحة بمشروع تلو مشروع، لكن المواطن لم يشعر بالتحسن بعد، والتعليم أغدق عليه عبدالله المال والرجال بلا جدوى مع أن عدد الجامعات الحكومية ارتفع في عهده من سبع جامعات إلى 24 جامعة. لكن العاهل الراحل وفّق حين عيّن محمد العيسى وزيرا للعدل ورئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، فانطلق التحديث وتحقق الانضباط، ومع ذلك فالأهداف ما زالت بعيدة. حالف التوفيق عبدالله مرة أخرى لما رمى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعبداللطيف آل الشيخ ليكافح التطرف جاعلا الجهاز في خدمة المواطنين لا خدمة للغلو وساعيا لأن تكون الهيئة تحت سلطان الدولة لا جزيرة معزولة معادية للحريات العامة والخاصة. لذلك، حريّ بسلمان الحسم أن يلجأ إلى الحزم، فإن كان أعفى العيسى وآل الشيخ كأشخاص، فإن الواجب يحتم أن لا يستغني عن المنهج، كما أن قطاعات الصحة والإسكان والتعليم لا بد أن تعامل بصرامة العسكر وطموحات الإبداع ومرونته. الوصية الخامسة، ربما تتجلى في تشكيل لجنة عليا تراجع أوضاع المدن الاقتصادية التي شرع فيها العاهل الراحل، وتصفية المدن المتعثرة التي لا مجال لها في الواقع، وتسخير كل الاهتمام للمدن الواعدة انتظارا لمنافعها الاقتصادية والمجتمعية. وربما يلحق بهذه الوصية، لجنة أخرى محايدة وموضوعية، تدرس أسباب فشل هيئة مكافحة الفساد (نزاهة)، وترسم السبيل الصحيح لاستئصال الفساد وردع أربابه خلف القضبان قصاصا للمواطن وصيانة للدولة. وعلى ذكر الفساد لا بد من إعلان شفاف يكشف للمواطنين الأسباب الحقيقية لكارثة سيول جدة 2009، وفضح “كائنا من كان” المسؤول عنها وفق نص عبدالله، وطمأنة الناس بأن “كائنا من كان” ليس حرا طليقا أو لن يكون حرا طليقا، إذ يبدو أن “كائنا من كان” يظن نفسه فوق القوانين والأنظمة لنفوذه ولسطوته، وهنا يجب أن نثبت له جميعا ولأنفسنا عكس ذلك، فليس من العدل ألا نقطع رأس الأفعى وندهس بيضها. أوصيكم بالشعب الوصية السادسة، هي ما قاله عبدالله نصا “أوصيكم بالشعب”، فالعاهل الراحل يعتقد محقا بأن قيمة الحاكم مستمدة من المواطنين “نحن لا شيء من دون المواطن”. والشعب عند عبدالله يبدأ من الفقير والضعيف والمحتاجة إلى ولي العهد وولي ولي العهد مع التركيز على الفئات المهملة والمهمّشة، ومن أجل شعبه أطلق عبدالله مبادرة مكافحة الفقر وقدم العطايا لوزارة الشؤون الاجتماعية، سواءبمناسبة ومن دون مناسبة، اعترافا بتقصير الأجهزة الرسمية والتفاتا إلى الشريحة المكسورة التي يجب أن تنال حقها في أغنى دولة نفطية. الفقر شقيق البطالة، لذلك احتضن عبدالله وزارة العمل واضعا على رأسها وزيره الراحل غازي القصيبي ثم المهندس عادل فقيه الذي أوصى به القصيبي نفسه. لذلك، يجب أن تستمر العناية بالمكسورين لكن بصورة مؤسسية وبمنظار جذري بداية من وضع مبدأ رفيع لمكافحة الفساد “حماية المال العام وإعطاء كل ذي حق حقه والحنو على الناس” وليس انتهاء بإصلاح البنية الإدارية والتعليمية وتحسين المناخ الاستثماري لمواكبة جهود وزارة العمل في حربها ضد البطالة. وهناك روح مستلهمة في علاقة عبدالله بشعبه، في حفل استقباله بالمدينة المنورة عام 2005 نهى عن مناداته بـ”مولاي”، وأضاف “أن تقبيل يد المسؤولين أمر دخيل على قيمنا وأخلاقنا ولا تقبله النفس الحرة الشريفة، إلى جانب أنه يؤدي إلى الانحناء وهو ما يخالف الشرع، لذلك أعلن من مكاني رفضي القاطع لهذا الأمر”، ليترنّم غازي القصيبي شعرا بمليكه “سلمت يد لا تقبل التقبيلا/وسلمت للشعب النبيل نبيلا/جسدت في شخص كرامة موطن/تأبى العقيدة أن يكون ذليلا/علمتنا أن الرجولة موقف/يقف الزمان أمامه مذهولا/وملكت ناصية الجموع مروءة/بالحب تفتح أضلعا وعقولا/يا فارس الأخلاق رب سجية حسناء تهزم صارما مصقولا/تاج التواضع زان جبهتك التي اتخذت سجودك تاجها المجدولا”. الوصية الثامنة، قالها عبدالله أيضا هي وصية الدين، ومن حفظ الدين استئصال المتاجرين به لغرض الوصاية على الناس وطمعا في السلطة، ومن أجل الدين شنت المملكة في عهد عبدالله حربها العادلة ضد قوى الإسلام السياسي واستمرت في معركتها ضد الإرهاب، ومن أجل الدين وبّخ عبدالله بعض علمائه اتهاما بالكسل في مواجهة الغلو والتطرف، ومن أجل الدين حذر عبدالله العالم من مغبة التراخي في وأد الإرهاب. قال عبدالله يوما “العلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في العقول المريضة” وأضاف “لقد تعرضت الإنسانية لهجوم عنيف من المتطرفين الذين يرفعون لغة الكراهية ويخشون ويسعون للهدم، ولا يمكننا أن نواجههم إلا إذا أقمنا التعايش محل النزاع والمحبة محل الأحقاد والصداقة محل الصدام”. وفي مناسبة أخرى قال “إن اختلاف الآراء وتعدد الاتجاهات والمذاهب أمر واقعي في حياتنا ومن طبائع الناس، وأسلوب الإقناع ومخاطبة العقل أفضل من المنع والحجب”، ويؤكد في مناسبة ثالثة “يجب أن نتكاتف جميعا لدحر الإرهاب والتطرف، الإرهاب ليس من الإسلام في شيء وليس من الأديان السماوية كلها، هو عضو فاسد ولا علاج له سوى الاستئصال، وإننا ماضون في استئصاله بلا هوادة حتى نقضي على الفئة الضالة التي اتخذت الدين الإسلامي جسرا لأهدافها الشخصية وشوّهت بفكرها الضال سماحة الدين. الإسلام دين محبة وتعايش لا دين بغض ودم، ولا سبيل للتعايش إلا بالحوار حقنا للدماء ونبذا للفرقة والجهل والغلو وانتصارا للسلام”، وأكمل “إن ما يعيشه العالم من تناحر وتباغض وتباعد وفرقة ليُندى له جبين الإنسانية، ولا سبيل إلى حقن دماء إخواننا وأبناء أمّتنا وصون أعراضهم إلا بالوقوف في وجه الظلم، وجهر الصوت بالحق، ولم شتات الأمة والإبحار بها نحو بر الأمان ووحدة الموقف، وإخماد بؤر الصراع والتناحر، وإطفاء مشاعل الفتنة، ومكامن التشرذم، ليحيا هذا العالم في سلام”. وليس خافيا على أحد دعم عبدالله لقضايا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعمارته التاريخية للحرمين الشريفين، والمأمول من خليفته سلمان مواصلة النهج والعمل، مع إضافة الاهتمام بالآثار النبوية التي هي كنز إنساني قبل أن تكون ثروة دينية أو وطنية، ومراجعة مشروع توسعة الحرم النبوي ليحقق أهدافه بدقة. فلسطين أم القضايا الإنسانية الوصية التاسعة تتمدد خارج البلاد، فالقضية الفلسطينية هي أم القضايا الإنسانية، وليس غريبا أن تصب المملكة جل جهدها لدفع عملية السلام التزاما بمبادرة عبدالله التي حققت الإجماع العربي والاحترام الدولي، إضافة إلى مواجهة جرائم إسرائيل سياسيا، ودعم الشعب الفلسطيني تماما وتوحيد سلطته. ومن إسرائيل التي تحتل فلسطين والجولان إلى إيران التي تحتل الجزر الإماراتية الثلاث وتعيث تخريبا في اليمن ولبنان وسوريا والعراق والبحرين، ولعل مواجهة إيران تبدأ من الداخل السعودي عبر تكريس حق المواطنة للشيعة السعوديين وغيرهم، لأن ذلك هو الحق، وهو الباب لاحتواء الشيعة العرب والأقليات المتنوعة في وجه مشاريع التفتيت والهيمنة. الوصية العاشرة، تنظر -أيضا- خارج الحدود، بالوقوف مع مصر في محنتها الاقتصادية والأمنية، فهي دعامة الاستقرار العربي ودرع العرب المتين، وفي ضعفها انكسار للمملكة وللخليج. وكذلك الحنو على لبنان الذي هو واحة عربية مستهدفة من الأعداء ومن بعض أبنائه، وأثره الثقافي الذي نهل منه العرب دفعهم إلى الأمام، وقيمته في زمان التطرف والطائفية لا تقدر بثمن. وأخيرا، ترسيخ الحلف الاستراتيجي مع دولة الإمارات ضد الإرهاب وضد تمزيق الخليج. لقد تولى الملك سلمان مقاليد العرش بعد زعامة تاريخية. ويبدو الحكم بعد زعامات تاريخية شائكا، فالحاكم الجديد مكبل بظلال الحاكم السابق وبمقارنة دائمة وخاسرة لا مجال لمراجعتها إلا بعد عقود، وقد مر بذلك الملك سعود بعد المؤسس عبدالعزيز، وأنور السادات بعد جمال عبدالناصر، وزين العابدين بن علي بعد الحبيب بورقيبة، وسعد الحريري بعد رفيق الحريري. كما أن تطلعات المواطنين والنخب تتخذ من إنجازات الزعيم التاريخي ومنهجه حدا أدنى للآمال، وذلك مزاج يبدو في بعض الأحيان ضربا من المستحيل. يجب أن نخرج من هذه الدائرة التي تظلم سلمان وتسيء لعبدالله، فلو قلد الملك الجديد سلفه اتهما معا بالجمود، كما أنه من حق سلمان نقش بصمته الخاصة وطنيا وتاريخيا، وظروف عبدالله تختلف عن ظروف سلمان، لذلك فالحل هو المحافظة على الاتجاه والمنهج مع القبول بضرورات التمايز وتباين المعطيات. لا مناص -تاريخيا- من أن يكون خليفة الزعيم التاريخي هو الآخر تاريخي أو استثنائي لحفظ هيبة الدولة ونموها واستمراريتها، والمأمول من الملك سلمان -بالنظر إلى سيرته وتجربته- أن يكون عند حسن الظن به. مر بنا يوم الأربعين على رحيل الملك عبدالله، وما أردنا قوله لسلمان قلناه وقاله عبدالله، ومع ذلك وجدتني في ذلك اليوم أتمثل بيت الشاعر اللبناني شوقي بزيع مخاطبا عبدالله بن عبدالعزيز “طال ارتحالك ما عودتنا سفرا/أبا المساكين فارجع نحن ننتظرُ”. *نقلا عن "العرب"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه