ألقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الأسبوع الماضي خطابًا ملكيًا مكثفًا تحدث فيه عن غالب الملفات الداخلية وعن رؤيته لتطوير وتحديث وتنمية بلاده وشعبه ورسم الخطوط العريضة لعهده الزاهر، وتحدث عن السياسة الخارجية وأننا جزءٌ من العالم نواجه تحدياته ونقدم الحلول لمشكلاته. كان الخطاب شاملاً لأهم القضايا التي تشغل بال المواطن من الحديث عن التأسيس والمشروعية السياسية إلى تطوير السلطة التنفيذية، وركز على التنمية الشاملة والمتوازنة وكذلك الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل والقطاع الخاص وكذلك المواطن والمجتمع، والأمن والإرهاب، والملفات الخدمية من تعليمٍ وصحةٍ وإسكان ونحوها. بدأ المليك خطابه بتأسيس الدولة والتأكيد على استمراريتها عبر إخوته الملوك السابقين وعلى استقرار الدولة كمنجزٍ تجب حمايته وتعزيزه، وعلى رسوخ المشروعية السياسية وثباتها وتطويرها، وذلك «بالسعي المتواصل نحو التنمية الشاملة المتكاملة والمتوازنة في مناطق المملكة كافة، والعدالة لجميع المواطنين، وإتاحة المجال لهم لتحقيق تطلعاتهم وأمانيهم المشروعة في إطار نظم الدولة وإجراءاتها»، بحسب نص الخطاب. وقد اعتمد المليك «التطوير» المتدرج كخيارٍ استراتيجي بحيث يكفي الدولة والمجتمع شر الجمود من جهةٍ أو القفز في المجهول من جهةٍ أخرى، وقال: «إن التطوير سمة لازمة للدولة منذ أيام المؤسس - رحمه الله - وسوف يستمر التحديث وفقًا لما يشهده مجتمعنا من تقدم وبما يتفق مع ثوابتنا الدينية وقيمنا الاجتماعية». وأكد الخطاب الملكي على «الوحدة الوطنية» التي هي مصدر الاستقرار وقال: «نؤكد حرصنا على التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة، والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع بما يضر بالوحدة الوطنية» فأي تصنيفٍ يكون مبنيًا على آيديولوجيا متطرفةٍ أو ولاءاتٍ خارجيةٍ أو إثارةٍ للفتنة أو أي نوعٍ يضر الوحدة الوطنية ولا يعززها هو تصنيفٌ مرفوضٌ. أما في شأن تطوير السلطة التنفيذية، فقد كان خادم الحرمين الشريفين قد ابتدأ عهده بهيكلةٍ جديدةٍ للحكومة تقوم على تأسيس مجلسين تنفيذيين يتبعان لمجلس الوزراء هما «مجلس الشؤون السياسية والأمنية»، و«مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية»، وهو نموذجٌ جديدٌ في الإدارة الحكومية، مع ضمان أن تجتمع في المجلسين حكمة الشيوخ وفاعلية الشباب، وهو ما طبع الأداء الحكومي بالفاعلية والسرعة مع الإتقان في التخطيط والتنفيذ على أسسٍ حديثةٍ واستمرارٍ للمراقبة والمحاسبة، وقد جاء في الخطاب الملكي ما نصه: «وقد وجهنا بمراجعة أنظمة الأجهزة الرقابية بما يكفل تعزيز اختصاصاتها والارتقاء بأدائها لمهامها ومسؤولياتها، ويسهم في القضاء على الفساد ويحفظ المال العام ويضمن محاسبة المقصرين». وقد أكد الملك رؤيته للتطوير الحكومي وعمل المجلسين بقوله في الخطاب: «لقد أكدت على جميع المسؤولين، وبخاصة مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، بمضاعفة الجهود للتيسير على المواطنين، والعمل على توفير سبل الحياة الكريمة لهم، وهو أقل الواجب المنتظر منهم، ولن نقبل أي تهاون في ذلك» وقد شهد الأسبوع الماضي أول تطبيقٍ عملي لعدم التهاون، وذلك بقرار إقالة وزير الإسكان بعد العرض الذي قدمه أمام «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية» لرؤيته لأهداف وخطط وزارته التي لم ينجز فيها شيئًا يذكر على مدى أربع سنواتٍ، على الرغم من كل ما حظي به من دعمٍ مادي ومعنويٍ، مع استحضار ما جاء في الخطاب الملكي في شأن الإسكان الذي لم يعد ملفًا خدميًا فحسب، بل ملفًا سياسيًا وأمنيًا، وذلك بقول الملك: «وبالنسبة للإسكان، فإننا عازمون، بحول الله وقوته، على وضع الحلول العملية العاجلة التي تكفل توفير السكن الملائم للمواطن». في ما يتعلق بالمواطن والمجتمع، فقد كانت الإشارات واضحةً في الخطاب الملكي، فـ«العدالة لجميع المواطنين»، و«أبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات» مع حفظ «الحقوق لكل أبناء المجتمع»، وفي كلمةٍ جامعةٍ قال: «كل مواطن في بلادنا وكل جزء من أجزاء وطننا الغالي هو محل اهتمامي ورعايتي». مع التأكيد على نعمة الأمن ودور المواطن والمسؤول في توفيره وعدم السماح لأحدٍ بالعبث بالأمن والاستقرار، فقد أوضح الخطاب الملكي أن هذه اللحمة الوطنية قد أفشلت «بعد توفيق الله، الكثير من المخططات التي تستهدف الوطن في شبابه ومقدراته» وهو ما أعاد التأكيد عليه ولي ولي العهد رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، في اجتماع وزراء الداخلية العرب في الجزائر بتصريحه الذي جاء فيه: «هناك تنظيمات إرهابية هي واجهاتٌ لدولٍ وأنظمة تسخّر إمكاناتها للنيل من أمننا واستقرارنا واستمرارية وجودنا». أما في الاقتصاد والتنمية، فقد أكد الخطاب الملكي على أمرين؛ الأول، «بناء اقتصاد قوي قائم على أسس متينة تتعدد فيه مصادر الدخل» مع تأكيد على الحدّ من تأثير ما يمر به سوق البترول من انخفاض للأسعار على مسيرة التنمية. الثاني، التأكيد على دور القطاع الخاص في تطوير الاقتصاد الوطني، وأن رجال الأعمال شركاء في التنمية، وأنه مع التسهيلات والامتيازات التي قدمها الوطن، فإن عليهم «واجب الإسهام بمبادرات واضحة في مجالات التوظيف والخدمات الاجتماعية والاقتصادية». التعليم هو بوابة المستقبل وضمانة التطوير ومن هنا جاء التطوير الذي اعتمده الملك سلمان بالتكامل بين التعليم العام والعالي في وزارة واحدةٍ والعناية بالبنية الأساسية له «بما يكفل أن تكون مخرجاته متوافقة مع خطط التنمية وسوق العمل»، وهذه إشارة بالغة الأهمية فقد كانت المعاناة كبيرةً من مخرجات تعليمٍ ليس لديها أي تأهيل على الانخراط في سوق العمل، مع التأكيد على أن مشروع الابتعاث مستمرٌ لينهل الشباب «من العلم في أرقى الجامعات في الداخل والخارج» خاطب الشباب المبتعث بقوله: «فأنتم استثمار المستقبل للوطن». وتحدث الملك عن صمام أمان البلاد ورجاله البواسل في القطاعات العسكرية وتقديره وتقدير الشعب لجهودهم المشكورة في حماية سيادة الوطن وتوفير الأمن والأمان وأكد أنهم محل عنايته ودعمه المستمر. لقد قدّم الخطاب رؤيةً متكاملةً لما يريده الملك لبلاده وشعبه من تطويرٍ وتحديثٍ وتنميةٍ وخدماتٍ ثم تطرق للسياسة الخارجية ليقول «نحن جزءٌ من العالم» ويؤكد على التزام السعودية بالمعاهدات والمواثيق الدولية ويرسخ دفاع المملكة عن حقوق الدول والشعوب العربية والإسلامية، ويفتح الآفاق لنشر المحبة والسلام ورفض العنف والإرهاب. أخيرًا، فإن الدولة السعودية تجدد قوتها وتأثيرها وحيويتها وفاعليتها، وقد قال الملك سلمان في خطابه: «وستكون السنوات القادمة، بإذن الله، زاخرة بإنجازات مهمة». *نقلا عن "الشرق الاوسط"