ترددت في تلبية الدعوة إلى زيارة مخيم الزعتري، حيث يقيم أكثر من 80 ألف لاجئ سوري في الأردن غير بعيدين من حدود بلادهم. خشيت أن أتعرض مع من معي إلى ما تعرض له المبعوث الأممي السابق إلى سورية الأخضر الإبراهيمي في تشرين الأول (أكتوبر) 2012، عندما احتج مئات من اللاجئين، وقيل إن بعضهم رموه بالحجارة لشعورهم أنه يسوف بهم وعاجز عن وقف الحرب الظالمة التي شردتهم. لم يتحسن شيء منذ زيارة الإبراهيمي التي لم تسفر عن شيء، مثل زيارتي الإثنين الماضي مع مجموعة من الباحثين معظمهم ألمان، على هامش حلقة نقاش عقدوها في عمّان. وسمعت خلال الزيارة عبارة تختصر معاناة اللاجئين والشعب السوري عموماً «نلتقي دوماً بوفود، نعرض عليهم معاناتنا، ونقدم لهم مطالب متواضعة ويعطوننا وعوداً، ثم لا يحصل شيء». سمعت هذا العتب وسكتّ مع غيري، لأننا لا نستطيع أن نكذب، فلا شيء في الأفق يدعو إلى التفاؤل في ما يخص الشأن السوري. في تلك الزيارة قبل عامين، وعد الإبراهيمي بأنه «سينقل ما رأى في المخيم إلى الأمم المتحدة». لابد من أنه فعل. حصل الكثير منذ أن صرح بذلك، ولكن ليس ما يوقف معاناتهم أو يعيدهم إلى وطنهم. استقال الإبراهيمي وجاء مبعوث أممي جديد بأفكار جديدة، تضاعف سكان المخيم وتحول من مخيم إلى مدينة كرافانات تضم 84 ألف سوري، ومر عليه منذ ذلك الوقت 430 ألف لاجئ انتقل بعضهم إلى مخيمات أخرى، أو تسربوا إلى حياة قاسية في المدن الأردنية حيث لا عمل ولا رعاية. وليس لنا اتهام الأردن بالتقصير، فاقتصاده المحدود بالكاد يكفي لتشغيل وطن أصبح مقصداً للاجئين العرب ممن حوله، استمر بشار الأسد في قصف كل مدينة وقرية تحدته وأعلنت رفضها لحكمه، واستمرأ الكذب، فزعم أنه يحارب عصابات وإرهاباً، لكنه في الحقيقة يحارب كل من رفض حكمه. في مذهب الطغاة العرب ومعهم جمع من «عبيد الطاعة»، فإن ذلك كافٍ كي يقتل النظام الأحرار، ويسوي المدن بالأرض، ثم يلومون بعد ذلك الربيع العربي والمؤمنين به ومن يتوق إلى الحرية، ولا يلومون الطاغية المستبد. خلال هذين العامين عقد مؤتمر «جنيف 2» بهدف «تأسيس هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، تضم أعضاء من الحكومة السورية والمعارضة»، كما ورد في «جنيف 1» وألح على تنفيذه الروس حلفاء بشار، فاجتمع هناك نصف دول العالم تقريباً، وبدا كما لو أن الجميع اتفق على إنهاء الصراع الذي كان مؤلماً وقبيحاً ومريراً يومها مثل ما هو اليوم. لكن النظام نجح في التملص وانصرف وزراء خارجية نصف دول العالم ولم يحصل شيء. هدد الرئيس الأميركي باراك أوباما بالحرب والتدخل بعدما قصف بشار شعبه بالكيماوي ثم تراجع، وأعلن السعوديون والأتراك والفرنسيون وغيرهم أن بشار فقد الشرعية ولابد من وقف المجزرة، وفي الوقت نفسه استمر سكان الزعتري يستقبلون مزيداً من اللاجئين من الداخل السوري يحملون آلامهم وأطفالهم. في بداية الأزمة كان النظام ينفي وجود لاجئين. كان الناطقون باسمه على قدر من الوقاحة أن يقول أحدهم إن هذه الخيام وهؤلاء البؤساء مجرد «شو» لتشويه صورة النظام الممانع. ومع تجاهل العالم لجرائم النظام واستهدافه للمتظاهرين العزل ليدفعهم إلى حمل السلاح لحماية أنفسهم وحديثه المستمر عن «العصابات المسلحة» التي كان يتمناها ليلغي صفة «السلمية» عن الثورة، توقف الناطقون باسمه عن إنكار وجود لاجئين. ومرة أخرى كان من الوقاحة أن يقول أحدهم ولا يزال إن هؤلاء اللاجئين فارون من العصابات المسلحة، وأنهم نتيجة طبيعية للحرب على الإرهاب. بعد عامين وأكثر من مغادرة الإبراهيمي ورفعه تقريراً عن أحوال المخيم حديث النشأة، أضحى السوريون يشكلون أكبر تعداد في العالم للاجئين من جنسية واحدة، بعدما احتل الأفغان هذا الموقع البائس لعقود. رسمياً، بات أكثر من نصف الشعب السوري لاجئاً، 4 ملايين موزعون بين تركيا ولبنان والأردن، وأكثر من 6 ملايين نازح داخل سورية يلاحقهم بشار ببراميله المتفجرة. لم يعد الأردن قادراً على استيعاب المزيد، ولا لبنان وتركيا. حتى الأمم المتحدة لم تعد قادرة. في المخيم حدثتني شابة أميركية تشرف على برنامج الأمم المتحدة للغذاء عن برنامجهم المتطور لتوفير الغذاء للاجئين. برنامج رائع يحفظ بعضاً من كرامة اللاجئ، يعطونه بطاقة وفرتها شركة «ماستر كارد»، تشحنها الأمم المتحدة بـ20 ديناراً أردنياً كل شهر للفرد، لينفقها بحريته في سوبر ماركت داخل المخيم. فكرة جيدة، ولكن ينقصها شيء مهم هو المال. تقول إنهم بصدد خفض الـ20 ديناراً إلى 18 هذا الشهر وربما إلى نصف المبلغ بعد أشهر قليلة. إنها فقط 28 دولاراً أميركياً لكل لاجئ سوري مسجل لدى الأمم المتحدة وليس كل لاجئ سوري، وهؤلاء ضعف المسجلين. لكن لا يوجد مال ولا رغبة لدى المانحين، فالعالم تعود على المأساة السورية واختفت عن شاشات الأخبار العالمية. تغلبت على مخاوفي وذهبت إلى المخيم. إنها بادية الشام، صحراء باردة في الشتاء، قرية الزعتري القريبة من المخيم ليست أحسن حالاً، فمن يختار ترك المخيم سيجد لا شيء ينتظره في المدينة، لا عمل ولا وظيفة. يبدو أن اليأس أصاب سكان المخيم، غلبتهم حاجات المعيشة وتفكك الثورة وتسويف العالم، فصرفتهم عن السياسة والتظاهر والغضب، لم يصرخ فينا من صرخ قبل عامين في وجه الإبراهيمي، إنما استمعت إلى شاب كان يعمل ممرضاً في درعا يقول: «لو أعود إلى سورية فمع من أقاتل؟ مع النصرة أم داعش؟ حتى النظام لا أمل أن ينتصر، لا شيء هناك غير الفوضى والقتل، وماذا أعمل هناك؟ بيوت مهدمة وقصف يومي، إذا انتصر النظام قتلك وإذا انتصر داعش قتلك. لدينا عمل كبير هنا ولكن كما ترى إمكانات قليلة». شاب آخر يقول: «أتمنى لو شغلنا وقتنا المهدر هنا بالتعليم، نحتاج جامعة ولو فرشاً على الأرض، حتى لو كانت جامعة مفتوحة للتعليم عن بعد. على الأقل نتعلم شيئاً يمكننا من أن نبني به وطننا من جديد عندما نعود. لابد من أن نعود، فما من حرب إلا وتنتهي. لكنها ستنتهي بعد أن تأكل كل شيء، فمن سيبني سورية؟ من سيعلم أبناءنا، كل يوم يولد 80 طفلاً هنا ويبدو أننا سنبقى في الزعتري طويلاً». لم أخبره أن ضابطاً أردنياً يبدو أنه آمر المكان أخبرني قبل أن ألتقي الشباب أن إدارة المخيم بصدد بناء شبكة مياه ومجارٍ، فلا بد أنه يعرف ذلك، وفي ظل الظروف التي يعيشها فإن هذا سيكون إنجازاً عظيماً. إذاً المخيم باق، بل يتحول إلى مدينة بائسة تنتظر شيئاً ما لا يبدو أنه سيحدث.