بضعة أسابيع تفصلنا عن المؤتمر الاقتصادى المرتقب والذى من المفترض انعقاده فى منتصف مارس القادم فى شرم الشيخ. وتعلق الحكومة الكثير من الآمال عليه حيث تتوقع جذب استثمارات أجنبية كبيرة تدفع عجلة النمو وتوفر العملة الصعبة للدفاع عن الجنيه. ومع البروباجندا الإعلامية، يعتقد الكثير من عوام الناس أن هذا المؤتمر هو الحد الفاصل بين حقبة الركود الاقتصادى وحقبة النمو والازدهار. لكن ما مدى واقعية هذا الرأى؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، من المفيد معرفة: متى بدأ الحديث عن المؤتمر؟ دعا العاهل السعودى -رحمه الله- بعد تنصيب الرئيس فى مطلع الصيف الماضى لعقد مؤتمر للمانحين لمصر والذى كان من البديهى أن تتصدره السعودية والإمارات والكويت. وقد كان من المفترض أن ينعقد المؤتمر خلال الصيف الماضى لكن استمر تأجيله حتى وصلنا للموعد الأخير فى مارس ٢٠١٥، بالإضافة إلى التأجيل، فقد تم تغيير طبيعة المؤتمر من «مؤتمر للمانحين» إلى «مؤتمر اقتصادى» يهدف لجذب الاستثمارات. وقد تعاقدت الحكومة مع شركات عالمية للاستشارات المالية والعلاقات العامة لتنسيق المؤتمر. ومن الجدير بالذكر أنه فى البداية كان الحديث عن ١٠٠ مليار دولار استثمارات أجنبية كمستهدف، لكن بمرور الوقت انخفض الرقم للنصف حتى أصبح الحديث مؤخرا عن حوالى ١٥-٢٠ مليار دولار فقط. ••• بعيدا عن تغير المستهدفات الرسمية، يحق لنا السؤال: ما هو معيار نجاح المؤتمر فى الأساس؟ المؤتمر كما تم الترويج له يهدف لجذب استثمارات أجنبية بشكل كبير تساعد على إخراج الاقتصاد من الركود. ويجدر فى هذا الصدد الإشارة إلى وجود ثلاثة أنواع من الاستثمارات. الأول الاستثمار الحكومى والذى توسع بعد ٣٠ يونيو لكن سرعان ما تراجع مع مساعى الحكومة التقشفية للسيطرة على عجز الموازنة. أما النوع الثانى فهو استثمار القطاع الخاص المحلى وهو ما شهد انكماشا منذ الثورة نتيجة اضطراب الوضع السياسى والأمنى والملاحقة القضائية للعديد من رجال الأعمال الكبار، وكذلك الضغط على الجنيه الذى يدفعهم للدولرة- تحويل مدخراتهم من جنيه لدولار. ومع تراجع هذين النوعين، يبرز أهمية النوع الثالث: الاستثمار الأجنبى المباشر. وقد استعانت الحكومة بشركات استشارات عالمية لمساعدتها فى رسم تصور للخروج من الأزمة الاقتصادية، والذى يرتكز على جذب تدفقات نقدية خارجية بحوالى ١٢٠ مليار دولار خلال أربعة أعوام فى صورة استثمارات أجنبية فى الأساس لتحقيق معدلات نمو تتخطى ٥٪ لاستعادة النمو والدفاع عن الجنيه. وبالتالى حينما نقارن ما يحتاجه الاقتصاد وما تتوقعه الحكومة من المؤتمر، فإنه من الواضح أن هذا المؤتمر لن يستطيع تحقيق الهدف الأسمى منه وهو الخروج من حالة الركود. لكن لماذا انخفضت التوقعات؟ يمكن إرجاع الانخفاض لسببين: الأول هو انخفاض أسعار البترول بشكل حاد وسريع مما يخفض من الفوائض المالية فى دول الخليج ويقلل من قدرتها على دعم مصر والاستثمار فيها. أما الثانى فهو تحول المنطقة لصفيح ساخن بوجود تنظيم كداعش يتصرف وكأنه دولة، يصدر جوازات سفر ويدير منشآت؛ مما يزيد من خطورة الاستثمار فى المنطقة بشكل عام. وللأسف مصر لم تصبح بعيدة عن ذلك الخطر مع تزايد تكرار وحدة الهجمات المسلحة. ••• لكن ماذا كانت متطلبات المستثمرين الأجانب؟ هناك خمسة متطلبات رئيسية يمكن تفصيلها كالآتي: الأول: وجود خارطة طريق سياسية واضحة تضمن استقرار النظام الجديد لفترة طويلة. وفى هذا الصدد تمت الموافقة على دستور جديد وانتخاب رئيس، لكن الأغلبية الساحقة تعيد للأذهان ذكريات فترات سابقة. كما أن الشواهد تشير إلى مجلس نواب الحزب الواحد مرة أخرى. وعلى الرغم من أن المستثمرين الأجانب لا يهتمون بقضية الديمقراطية إلا أنهم يولون اهتماما كبيرا لقضية استقرار واستدامة النظام وهو ما يشوبه علامات استفهام ليست بالقليلة. الثانى: تبنى برنامج إصلاح اقتصادى يسيطر على عجز الموازنة والدين الحكومى المتصاعدين وهو ما بدأت به الحكومة بالفعل، وكان أبرز ملامحه رفع أسعار الطاقة فى إشارة أن محرمات العقود الثلاثة السابقة (رفع الدعم) أصبحت من المباحات. كما حالف الحكومة الحظ هذه المرة وانخفضت أسعار الطاقة عالميا مما يخفض من عجز الموازنة. وذلك بالتأكيد محل تقدير من المستثمرين. الثالث: تخفيض الجنيه مما يجعل سعر صرفه مقاربا لقيمته الحقيقية، وكذلك توافر الدولار بشكل دائم فى السوق. وقد كان للتخفيض الأخير فى الجنيه أثر إيجابي حيث رد على مخاوف المستثمرين وطمأنهم فى هذا الصدد. لكن يبقى التخوف من توافر الدولار لتلبية حاجة المستثمرين فى وقت يتراجع فيه الاحتياطى لدى البنك المركزى. الرابع: إقرار قانون موحد للاستثمار يوضح آلية الاستثمار فى البلد وما يخص تخصيص الأراضى والمعاملة الضريبية والجمركية. وقد تم بالفعل إصدار مسودة للقانون لكن لم يتم إقرار القانون بعد، مع تحفظات كبيرة على دستوريته. الخامس: وجود استقرار أمنى فى البلد. وهذه النقطة هى الأهم للمستثمرين لكنها أصبحت أكثر النقاط ضعفا. فطبقا للرواية الرسمية، فإن مصر تحارب الإرهاب وتواجه أخطر تنظيم سرى فى العالم مما يستدعى قيادة عسكرية موحدة لمواجهته. هذا التطور مؤسف بكل المقايس ولا يرضاه مصرى مخلص لبلده. لكن المستثمر الأجنبى ليس مصريا وليس مخلصا لأم الدنيا وأقل ما يمكن أن يقوله: «دعنا ننتظر حتى تستقر الأوضاع». ••• الخلاصة أن التوقعات من المؤتمر الاقتصادى انخفضت بشكل كبير بمرور الوقت بسبب الوضع الداخلى والتغيرات الإقليمية مما أضعف من احتمالية جذب استثمارات بالشكل الكافى لإخراج الاقتصاد من الركود. لكن هل كان من المنطقى افتراض أن تستطيع دولة تمر لسنوات بأزمة سياسية وأمنية حرجة جذب عشرات المليارات من الدولارات فى مؤتمر واحد؟ بالطبع لا. ولعل الهدف الأوقع كان رسم صورة أفضل عن البلد تؤدى لاستثمارات على المدى المتوسط. على كل حال، سينعقد المؤتمر بعد أسابيع وسنسمع عن صفقات بعشرات المليارات لكن بدون جدول زمنى للتنفيذ حتى ننسى الأمر ونعاود البحث عن حدث كبير آخر نعلق عليه آمالنا، بدلا من إدراك أن ما أفسده الدهر يحتاج لأكثر من مؤتمر أو مشروع قومى لإصلاحه.