كانت نية الكاتب منعقدة على تكريس هذه المساحة لمناقشة التحديات التى تواجه البرنامج التنموى الطموح الذى نتج عن مؤتمر شرم الشيخ، وفى المقدمة منها الدور البائس الذى تقوم به البيروقراطية المصرية فى مقاومة «الاستثمار». ولا أدرى الحد الذى يمكن أن يصل إليه قانون الخدمة المدنية الجديد فى حل هذه المعضلة، ولذا كان بعض من الزمن ضرورياً للاستيعاب. وللحقيقة، فإن موضوع «العاصمة» الجديدة «كابيتول كايرو» فرض نفسه كنوع من الملخص العام لما جرى فى المدينة الساحرة فى جنوب سيناء. فالعرض كان خاطفا للعيون، و«الماكيتات» أنيقة، وتُوشَّى بمدينة طالما مدحها، وأحبها المصريون، وهى دبى. وربما لا يقل أهمية عن كل ذلك، الظهور القوى لرئيس مجلس إدارة شركة «إعمار» التى نوهت عن حالة شبابية صريحة تليق بالعاصمة الجديدة، خاصة وهى تعبر دون خجل عن «ربحية» العمل فى مصر، وكيف أنه رغم كل البيروقراطية العتيدة، لا يختلف كثيرا فى هذا الشأن عن البيروقراطيات فى بقية دول العالم. لم يكن هناك لدى الرجل عقبة إلا كان لها حل من نوع ما، وتبرير من نوع خاص. المهم بدا الأمر، وكأن العاصمة فى قبضة اليد، ومجسدة فى يد فريق قادر على الإنجاز. ولكن، كما ذكرت فى مقال سابق، فإن للمدينة أمرا، وللعاصمة أمرا آخر. المدينة واضح سياقها، فهى ببساطة تسير فى اتجاه تلك النقلة التاريخية من النهر إلى البحر، التى طالما نادينا بها لأسباب عددناها فى السابق. وكانت المرة الأولى التى سمعت فيها تطبيقا عمليا لهذا الاقتراب من المشكلات المصرية فى واحدة من جلسات «لجنة السياسات» فى الحزب الوطنى الديمقراطى- حينما ذكر السيد منصور عامر ضرورة أن يكون للقاهرة شاطئ على البحر، مقترحا أن تمتد شرقا حتى تصل إلى خليج السويس فى العين السخنة. لم يتبن أحد الفكرة بشكل رسمى، ولكن الواقع بدا كما لو كان يطبقها عندما بدأت القاهرة تمتد شرقا خاصة بين طريق العين السخنة وطريق القاهرة السويس. نشأت «القاهرة الجديدة» قوية وعفية، وبداخلها عدة مدن مثل الرحاب والقطامية، وحولها مدن أو أحياء جديدة فى الشروق وبدر ونيوهليوبوليس، ولحقتها مدينتى. وعلى الخرائط توجد مشروعات كبيرة مماثلة، إما أنها فى دور البداية أو أنها فى دور التكوين. «كابيتول كايرو» تأتى على سبيل التطور المنطقى لهذا التوجه، بل إنها تأخذه نوعيا فى اتجاه البحر، وربما تساهم فى المستقبل فى استكمال مروحة شرق الدلتا كى تلتحم مع خليج السويس وقناة السويس ومشروعها العمرانى العملاق (مشروعها البحرى قصة أخرى عملاقة أيضا). وإذا تصورنا كل ذلك مرتبطا بشبكة من الطرق البرية والسكك الحديدية والجوية السريعة، فإننا نصبح إزاء ميلاد لتشكيلة عمرانية حديثة تليق بشعب سوف يعبر حاجز المائة مليون نسمة فى القريب العاجل. وببساطة سوف تكون مصر دولة بحرية بامتياز، على الأقل الآن فى اتجاه البحر الأحمر وتفريعاته، وفى وقت آخر سوف يطرح البحر الأبيض نفسه على مناقشة الخطط التنموية. نحن إذن فى الاتجاه الصحيح، والطابع المعمارى للمدينة، كما يقال «ألترا مودرن»، يسير فى نفس التوجه المودرن الذى سار عليه العمران من الطريق الدائرى حول القاهرة شرقا، وحتى مدينة السويس. ومن الجائز أن نتساءل إذا كان المصريون قد بدأوا بالفعل السير فى هذا الاتجاه، وبسرعة كبيرة خلال العقدين الماضيين، فلماذا لم نقرر وضع المدينة الجديدة، واستثماراتها من دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة فى مكان آخر، رشحت له من قبل مدينتى سفاجا على البحر الأحمر والعلمين على البحر الأبيض، حيث يكون لنموذج دبى معان اقتصادية وعمرانية ملائمة. ولكن الظن أن فكرة العاصمة حتى لو كانت إدارية هى التى غلبت، وهى التى تستحق المناقشة، ولا خير فينا إذا لم نقل الحق فيها، أو ما نعتقد أنه حق، مع أمل أن يستمع أولو الأمر. فالعواصم ليست مجرد مدن للسكنى، أو مناطق للعمران فقط، وإنما هى عنوان ضخم وهائل للحضارة التى لا تماثلها حضارة أخرى. هنا لا يوجد مجال للتميز أو التفوق، وإنما مجال للنكهة، والطعم، والموسيقى، والتقاليد، والفنون بأنواعها. القاهرة مع كل أمراضها، مكانها وسط مدن تاريخ العالم العظمى، مثل روما وباريس وأثينا وموسكو ولندن وبكين، حيث لا يوجد معنى لأى من هذه دون «الكولزيوم»، وقوس النصر، و«الكابيتول»، والميدان الأحمر، وقصر «بكنجهام»، و«المدينة المحرمة»، وفى القاهرة الأهرامات. كل هذه المدن مولود حضارة واحدة بلغت مجدها حول عاصمة تاريخية، وأحيانا اشتق اسم الحضارة من العاصمة، مثل «الرومانية» نسبة لروما، ولكن القاهرة وحدها هى مجمع حضارات متكامل، لأنها فى حقيقتها قامت على تراكم لعواصم مختلفة فرضتها دولة «القطرين»، حينما فرضت جغرافيا النيل بين الدلتا والجنوب أن يكون مركز الدولة عند طرف المثلث الجنوبى للدلتا حاكما بينها وبين مجرى النيل الجنوبى أو صعيد مصر. هنا قامت «منف»- الأهرامات الفرعونية- والفسطاط والقطائع والقاهرة، حيث العاصمة الإسلامية القبطية المملوكية الخديوية والتى حولها، ومن خلالها قامت القاهرة الحديثة فى الزمالك ومصر الجديدة، وأحدثها القاهرة الجديدة والسادس من أكتوبر. هذا «الكوكتيل» من الحضارات لا يوجد له مثيل آخر فيما يشكله من «طعم» المكان، ولا يمكن لـ«كابيتول كايرو» أن تكرره، ولا يجب أن تفعل ذلك بوسائل أخرى، فوجود «كازينو» ضخم فى «لاس فيجاس» على هيئة «أبوالهول» لا يجعل «لاس فيجاس» مدينة مصرية. وللحق فإن عظمة «كابيتول كايرو»- حتى نجد اسما آخر- تكمن فى أنها تحمل أعلى درجات «الألترا مودرن» فى العالم. بصراحة: إن جعل المدينة عاصمة «إدارية» يفقد القاهرة الأصلية أهم ما فيها، وهى الأصالة التاريخية للدولة المصرية، التى لا تنفصل شرعيتها عن «الأهرامات»، و«قلعة صلاح الدين»، وقصر عابدين، والقبة، والاتحادية، ومبانى مجلسى النواب والشيوخ حتى لو تغيرت الأسماء أحيانا إلى الشعب والشورى، ومقر مجلس الوزراء فى لاظوغلى. هنا كانت الدولة المصرية فى تعبيراتها المعمارية المختلفة، حتى لو كان الحاكم أو الوزير فى مكان آخر، فإن خطوط الدولة متصلة كما تجرى الدماء فى العروق، والكهرباء فى البيوت. ربما كنت أنتمى إلى جيل مضى، وراح زمنه، ولكنه جيل أكتوبر قبل وبعد كل شىء، وبالنسبة له فإن العاصمة، التى يقال عنها فى ريف مصر، الذى نشأنا فيه «مصر»، لا يمكن أن يحل محلها «كابيتول كايرو». لتنتشر المدن والعمارة فى أرجاء مصر كلها، وليكن فيها كل جديد وحديث، ولكن العاصمة (القاهرة) لا يوجد لها بديل. *نقلاً عن "المصري اليوم"