سؤال يتكرّر في لبنان بين حين وحين: كيف يمكن للمجتمع نفسه أن يفرز، بشكل متزامن، إدارة فاشلة للشأن العام ونخباً ذات نجاح باهر في الأعمال والعلوم؟ مناسبة السؤال اليوم هي انتخاب رئيس غرفة تجارة بيروت نقولا شمّاس رئيسا لجمعية قدامى جامعة ماساشوستس للتكنولوجيا... الإخفاقات التي تسجّلها الحياة السياسية ورموزها، والإحباطات التي تسبّبها الإدارة السيّئة للبلاد، كلها تبرّر الاغتباط بنجاح باهر واستثنائي يحققه واحد من الوجوه اللبنانية البارزة، حتى لا تستقرّ في أعماقنا قناعة مغلوطة بأن لبنان لا يبرز إلا «الشياطين» والفاشلين. لقد ذكّرنا هذا الحدث بأن لبنان ليس ما توحيه الصورة الراهنة للسياسة والاقتصاد، بل هو مقلع للناجحين والمبدعين، المقيمين أو المنتشرين في بقاع الأرض، المجلين في حقول المال والأعمال والتقنية العالية، والعلوم والطب والفن والفكر والفلسفة. نقولا شمّاس هو أوّل شخصية غير أميركية تترأس جمعية المتخرّجين في أهمّ جامعة للعلوم والتكنولوجيا في العالم، منذ تأسيسها قبل قرن ونصف القرن. مئة وثلاثون ألف متخرّج على قيد الحياة ينتخبونه رئيسا لجمعيتهم، وهم حكام وسياسيون وأكاديميون بارزون وقادة لأهمّ قطاعات الأعمال على وجه الأرض، ويستخدمون 3.5 ملايين شخص في مشاريعهم التي تشكل ناتجاً قائماً يقع في المرتبة 11 في الاقتصاد العالمي، ويوازي 45 مرّة الناتج المحلي القائم في لبنان. ثمانون شخصا تعلّموا أو علّموا في جامعة ماساشوستس فازوا بجائزة نوبل في مختلف ميادين العلوم. غريب أن يختار هؤلاء المتخرّجون رئيسا غير أميركي لهم، لأن جامعتهم لا تستوعب سنويا أكثر من 3% من الطلاب غير الأميركيين. فكيف إذا كان الرئيس المنتخب لبنانيا وعربيا يجاهر بأصله وانتمائه، فيجنّد علاقاته ويكثف جهوده لكي تقبل الجامعة كل عام مزيدا من الطلاب اللبنانيين، وكذلك طلابا فلسطينيين، من القدس وغزة والضفة الغربية. الانتماء العربي لنقولا شمّاس كان يفترض أن يكون عائقا أمام تبوّئه منصبه الجديد. فهذا الموقع الرفيع متصل بأهم جامعة للعلوم والتكنولوجيا في العالم، فيما شمّاس يأتي من العالم العربي الموصوف بتدنّي مركزه في سلّم التقدّم العلمي والتقني وفي اقتصاد المعرفة. بين أوّل 500 جامعة في العالم هناك خمس جامعات فقط مقيمة في العالم العربي، أربع في السعودية وواحدة في مصر، وكلها ترد بعد أوّل 150 جامعة في اللائحة. المعايير المتّبعة في هذا التصنيف هي كمية ونوعية الأبحاث المنشورة في مجلات علمية معترف بها، عدد الباحثين المعترف بمقدرتهم العلمية وحملة الجوائز العالمية بما فيها جائزة نوبل. اسرائيل وحدها تملك سبع جامعات في اللائحة، بينها ثلاث بين أوّل مئة جامعة. في العالم ثلاثة مليارات مستعمل للإنترنت منهم 65 مليون عربي فقط، من أصل 350 مليون مواطن عربي، وبذلك يقلّ عدد مستخدمي الانترنت العرب عن مستخدمي الشبكة الألمان، رغم الفارق الهائل في عدد السكان. عدد المواقع العربية على الشبكة لا يتجاوز 1% من مجموع المواقع العالمية. عقبات عديدة تحول دون وصول لبناني وعربي إلى رئاسة جمعية متخرّجي جامعة ماساشوستس للتكنولوجيا. عقبات تجاوزها نقولا شمّاس بمواهبه وقدرته على مخاطبة الآخرين واكتساب ثقتهم. هو رجل أعمال ناجح ورئيس جمعية تجّار بيروت، وقد قرّر أخيرا توسيع أعماله باتجاه الصناعة المصرفية، فاستثمر في «سيدروس بنك» لقناعته بأنه مصرف واعد، وانتخب نائبا لرئيس مجلس إدارته. ولكن نقولا شمّاس لم يقدّم نفسه في بداية حياته كرجل أعمال، بل كمفكر صاحب رؤية اقتصادية واجتماعية، فكانت إطلالته الأولى قبل عشرين سنة من خلال كتابه المهم «مستقبل لبنان الاجتماعي والاقتصادي أمام التساؤلات». نعود للسؤال المنطلق عن الأسباب التي تجعل لبنان قادراً على توليد كفاءات وطنية لامعة ومتميّزة بالمعايير الدولية، وعاجزاً عن خلق قيادة ناجحة للبلاد، تتمتع بالكفاءة والمناعة الأخلاقية. الجواب هو في سلّم القيم القبلية التي تسود المجتمع السياسي اللبناني، فهي المسؤولة عن تردّي النظام السياسي وتدهور أوضاع لبنان الاقتصادية والاجتماعية. *نقلا عن "السفير"