يبقى تنظيم داعش من أكثر الظواهر الملغزة عالمياً. وتتضاعف هذه الألغاز على الطاولة العربية، حيث نشأ هذا التنظيم وترعرع. أهمية هذا اللغز بالنسبة إلى العالم ليس حكراً على تهديده الكل، بل لطبيعة تكوينه أيضاً. مع انضمام آلاف الأوروبيين والأميركيين إلى التنظيم. وخطابه الموجهة إلى المسيحيين بشكل متكرر، كما في حادثة قتل الأقباط، ثم الإثيوبيين في ليبيا الأسبوع الماضي، وهو ما يتواءم مع مخيال المحافظين الجدد الإنجيليين/الأميركيين حول نهاية العالم. وسياسات الغربيين حيال «حماية الأقليات» في المنطقة. أما عربياً، فالوضع أكثر تعقيداً؛ فـ«داعش» يبدو وكأنه الوحش الكاسر الذي أطلقه فشل التحول الديموقراطي في المنطقة مع ثورات 2011، وكأنه في آن واحد نتيجة السياسات الطائفية للأحزاب الدينية، والتدخلات الأجنبية ولاسيما الاحتلال الأميركي للعراق. خلال الأسبوع الماضي، وفي 18 من نيسان (أبريل)، نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تقريراً مطولاً بعنوان: «إستراتيجية الإرهاب: ملفات سرية تكشف بنية الدولة الإسلامية»؛ إذ شمل التقرير معلومات وتحليلات حول تأسيس تنظيم داعش وتمدده في سورية من وحي ملفات عُثر عليها إثر مقتل سمير عبد محمد الخليفاوي أو حجي بكر، من يُعتقد بأنه العقل المدبر للتنظيم. يشير التقرير إلى مسائل عدة. فالتنظيم بدأ التمدد ببطء في سورية عبر افتتاح مكاتب «دعوية»، كانت بمنزلة النشاط العلني الذي يُخفي تحته حجي بكر أنشطته التجسسية والإجرامية، التي انتهجها؛ من أجل التمدد في سورية. وبشكل مخابراتي وحزبي متقن تمكن حجي بكر من تأسيس «خلايا نائمة»، كوَّن معظمها من مقاتلين أجانب، حتى حانت ساعة الصفر، واستولى هؤلاء على مناطق على الأراضي السورية، وصولاً إلى تمركزهم في الرقة. هذا عن الجانب الإستراتيجي لتمدد التنظيم. الوجه الآخر من الرواية، هو التأكيد على البعد الآيديولوجي البعثي في نشأة داعش. فالتقرير يؤكد أن هذا التنظيم ليس إلا واجهة لأنشطة حزب البعث العراقي المنحل، وضباط الجيش البعثيين، الذين وجدوا أنفسهم في حال تهميش كامل بعد أن حل الحاكم المدني الأميركي بول بريمر الجيش العراقي الوطني إثر الاحتلال الأميركي. يسوق كاتب التقرير كريستوف رويتر أدلة على هذا، تشمل اعتماد حجي بكر على رجالات حزب البعث والضباط البعثيين لتأسيس «داعش»، وقيامه بعمليات اغتيال وتجسس تشابه ما كان يقوم به البعثيون في العراق، إضافة إلى عدم تدين حجي بكر، وعدم وجود مصحف في بيته عند مداهمته وقتله. واستخدامه -بحسب التقرير- الآيديولوجيا الجهادية؛ من أجل التجنيد والتمدد، وإلا فهناك شكوك حول قيادات «داعش» لدى المقاتلين الأفراد حيال بعض التصرفات التي تتعلق بالعلاقة مع النظام السوري من جهة، والجيش الحر وبقية فصائل الثورة السورية من جهة أخرى. على نقيض هذا الكلام، كتب الإعلامي وائل عصام في موقع التقرير -قبل «دير شبيغل» بأيام- مقالةً بعنوان: «فصل المقال فيما بين داعش والبعث من علاقة واتصال»، ينفي فيه يكون «داعش» واجهة لبعثيين عراقيين. مفنداً هذا الأمر من خلال نقاط عدة. فالبغدادي من ناحية لم يكن بعثياً، بل هو والكثير من قيادات التنظيم مثل أبوعمر الكردي، وأبوعمر البغدادي، كانوا ملاحَقين من النظام البعثي العراقي بسبب تدينهم. كما يطرح وائل عصام الفرق بين الحزبي والبعثي؛ فهناك الكثير من الحزبيين «المنتمين إلى حزب البعث»، لكن القليل من البعثيين «المؤمنين بالبعث كآيديولوجيا»، فالمنتمون لحزب البعث المنضمون إلى «داعش» أعلنوا توبتهم وغيَّروا آيديولوجيتهم، وباتوا يعتبرون أيام «البعث» أيام كفر وضلال. كما أن آخرين من الحزبيين باتوا في الحكومة العراقية اليوم، حكومة ما بعد الاحتلال الأميركي. يطرح وائل عصام بديلاً تفسيراً يتلخص في أن «داعش» نتاج القهر والظلم في سجون الاحتلال، والسياسات الطائفية للحكومة العراقية التي تحاول اجتثاث المكون السني في المنطقة. تأتي أطروحة ثالثة بين هاتين الأطروحتين. ما بين اعتبار «داعش» واجهة لحزب البعث، أو انتقاماً سنياً؛ وهي أن «داعش» مؤامرة أميركية-صهيونية؛ من أجل إضعاف المنطقة، وبقائها تحت الهيمنة ودائرة النفوذ الغربيين، من خلال إبقاء «الإرهاب» حجةً للتدخل في المنطقة. المثير في القناعة الأخيرة أنها الأكثر رواجاً وانتشاراً، ويتم تقبلها من فئات متعددة ومتناقضة في الأفكار والمصالح. فمن بشار الأسد الذي قال هذا في بدايات الثورة السورية، حتى قيادات الميلشيات الطائفية العراقية «الحشد الشعبي» والتي تحدثت قبل أسابيع عن إلقاء طائرات أميركية لمعونات عسكرية لداعش في الأنبار، وهو ما نفاه وزير الدفاع العراقي لاحقاً. هذه الفكرة يتبناها أيضاً أشخاص محسوبون على المعارضة السورية، والمعارضة العراقية، إذ يعتبرون «داعش» حصان طروادة من الحكومة السورية والعراقية لإبادتهم. كل هذه التفسيرات والتأويلات، سواءً اعتمدت على حقائق أم خيالات، يجب ألا تعمينا عن معطيات عدة، هي الواقع الذي علينا معالجته. فحضور «داعش» في المنطقة يشرع الأبواب لكل الأسئلة في وجه العرب والمسلمين. أسئلة النهضة المُحبطة منذ عقود. وأسئلة الأنظمة العسكرية والاستبداد والاستقلال. وأسئلة تراث الكراهية المذهبية الذي يعاد توظيفه في سياقات طائفية دموية. فهناك تدخلات أجنبية معلنة، بل احتلال أسهم في تدمير المنطقة منذ عقود. وهناك ظلم وتفرقة عنصرية وطائفية بغيظة يجب أن يُتصدَّى لها. وهناك خطاب كراهية دينية ومذهبية يُستخدَم لتبرير هذه المعارك الطائفية الدموية. إلقاء اللوم على عامل من هذه العوامل وتجاهل آخر يمثل هروباً عن مواجهة واقع أكثر تعقيداً وتشابكاً.