لا أذكر في حياتي المهنية أن أخطأتْ استطلاعات الرأي العام كما فعلت في انتخابات البرلمان البريطاني، فقد بقيتُ شهرين وأنا أقرأها كل يوم، ولا أجد فرقاً كبيراً في الشعبية بين المحافظين والعمال، ففي يوم هذا الحزب وفي يوم آخر الحزب المنافس، ولم تزدْ شعبية أي حزب في الاستفتاء بأكثر من ثلاثة في المئة، ثم جاء يوم الانتخابات وحقق حزب المحافظين غالبية عشرة مقاعد على الأحزاب الأخرى مجتمعة. كيف هذا؟ الجواب عند المنظمات والشركات التي نظمت الاستطلاعات وانتهت بالوحل على وجوه خبرائها، ولن أقول بوجوه محمرّة خجلاً وإحراجاً، لأن الموضوع أهم من ذلك. لا يسرني أن يربح حزب المحافظين، ولا يزعجني أن يخسر حزب العمال، فعندي اعتراضات على السياسة الخارجية للأول، وأراها لا تخدم أي مصلحة عربية بغير الكلام، وعندي مشكلات مع السياسة الداخلية للثاني فهو يريد أن يزيد الضرائب على أمثالي لينفقها على ناس لا يعملون وربما لا يريدون العمل. قادة الأحزاب الخاسرة استقالوا، ولم يزعم واحد منهم أن الانتخابات زوِّرَت، ولم يحاول أحدهم تدبير انقلاب عسكري للبقاء في الحكم. ولعل الفائز الحقيقي هو النساء فقد أصبحن يمثلن ثلث النواب، أو حوالى 190 امرأة من كل الأحزاب، وهي أعلى نسبة لهن في البرلمان على ما تعيه ذاكرتي. وأشعر بأن العرب كانوا بين الخاسرين مع اد ميليباند الذي انتصر لأهل غزة وقال إن اجتياحها لم يكسب أي أصدقاء لإسرائيل، أو نك كليغ الذي كان حزبه الليبرالي الديموقراطي يعارض بيع السلاح لإسرائيل. ولا أزيد هنا خسارة جورج غالاواي لأنه غوغائي رغم جرأة مواقفه المؤيدة للعرب. المهم اليوم أن ديفيد كاميرون عاد مع أركان حكومته، وزراء الخارجية والداخلية والمالية، وكلهم أفضل منه. هو قال عشية الانتخابات في مقابلة مع مطبوعة يهودية إن إسرائيل استعملت سلاحها للدفاع عن شعبها وإن حماس استعملت شعبها للدفاع عن سلاحها. إسرائيل بقيادة رئيس وزراء مجرم حرب وحكومة إرهابية محتلة تقتل وتدمر، وهذا رأي كاميرون. كنت قلت يوم الانتخابات أنه من المحافظين الجدد لذلك لن أنتخب المرشح المحافظ في دائرتي الانتخابية. هو على جانب كبير من الانتهازية السياسية، ولعل الدول العربية تهدده فهي قادرة، إلا أنني لا أعتقد أن عندها الرغبة أو الإرادة على خوض تحدي رئيس وزراء يؤيد دولة مستوطنين دانَها العالم كله، بما في ذلك الكنائس المسيحية، وطلاب بريطانيا وأميركا وغيرهم. هل يدرك القارئ العربي أن أحد أفضل أعضاء مجلس العموم هو النائب العمالي اليهودي جيرالد كوفمان الذي انتصر دائماً للفلسطينيين، وهو الآن رئيس السن في البرلمان البريطاني؟ أسجل هذا لأذكّر القارئ العربي بأن اليهود ليسوا كلهم نتانياهو، أو شارون أو شامير قبله، ففيهم بعض أفضل دعاة السلام حول العالم. بعض اليمين الإسرائيلي زعم أن كاميرون من نوع نتانياهو فقد أخاف الناخبين من المعارضة ونتائج انتخابها. لا أرى ذلك، وفي حين أعترض على السياسة الخارجية لكاميرون، وتحديداً الجانب العربي منها، فالمحافظون حققوا إنجازاً اقتصادياً واضحاً في خمس سنوات لهم في الحكم وكانت عند الناخب البريطاني أسباب لتفضيلهم على العمّال، فالناس في كل بلد يفكرون بجيوبهم، ويختارون الذين يعتقدون أنه أفضل «اقتصادياً» لهم، بمعزل عن العواطف والأخلاق الحميدة. الناخب البريطاني أثبت أنه أذكى وأفضل اطلاعاً وأكثر استقلالاً من الناخب الأميركي الذي حقق له باراك اوباما معجزة اقتصادية في ست سنوات فاختار الجمهوريين الذين نكبوه سنة 2008 ليعودوا غالبية في مجلسي النواب والشيوخ (الانتخابات النصفية في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي)، وهم لو حكموا مع رئيس جمهوري لخاضوا مغامرات عسكرية جديدة تنكب الاقتصاد الأميركي مرة أخرى. اليوم ديفيد كاميرون يقول إن حزبه سيجعل بريطانيا العظمى أعظم. لا أرى ذلك فبريطانيا لم تعد دولة عظمى. هي ربما كانت كذلك في القرن التاسع عشر وحتى ستينات القرن العشرين والانسحاب من شرق السويس، إلا أنها بلد ديموقراطي مزدهر، وكان الخيار لناخب عربي مثلي بين سيئ سياسياً وسيئ اقتصادياً فاخترت ألا أنتخب أحداً. * نقلا عن "الحياة"