رغم نجاح تونس الذي قاد انتفاضات الربيع العربي في تحقيق انتقال ديمقراطي للسلطة يعتمد على الاحتكام إلى صوت الناخب، إلا أن هاجس الخوف من الارتداد لا زال يسيطر على قطاعات هامة من النخب والمعارضة وحتى من هم مشاركون في السلطة. وفي الوقت الذي تعثرت دول الربيع العربي في انتقال السلطة، كان تونس الوحيد الذي نجح في تنظيم انتخابات ديمقراطية ونزيهة وتأمين انتقال سلمي إلا أن مخاطر حدوث انتكاسة ما زالت قائمة. فتواتر الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية وحالة الفوضى الأمنية في المحيط الاقليمي ومخاطر الإرهاب، كلها عوامل تجعل الديمقراطية الناشئة على حبل مشدود وفي حاجة لضمانات قوية ربما تتجاوز قدرات الدولة لضمان نجاح نموذج الانتقال الديمقراطي للسلطة، حتى بعد مرور 4 سنوات على الانتفاضة . ويتفق أغلب الفرقاء السياسيين أن استراتيجية "التوافق" كانت الأداة السحرية في تجنيب البلاد الانزلاق الى الفوضى والحرب الأهلية. ولكن مع تركيز مؤسسات الدولة، يتساءل السياسيون إلى أي مدى يمكن الاستمرار في هذه الاستراتيجية، وهل يعني ذلك الافتقاد إلى ضمانات فعلية لحماية الديمقراطية الناشئة؟ وهو ما اتفق معه برونو كاوفمان رئيس المنتدى العالمي للديمقراطية المباشرة، الذي تحتضنه تونس من 14 حتى 17 من مايو الجاري، من أنّ التقدم الذي أحرزته تونس يفتح الأبواب أمام فرص جديدة، لكنه يترافق مع أخطار كبيرة. وقلل لزهر العكرمي الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان من تلك المخاوف، مشيراً إلى أن الكثير من الضمانات موجودة في تونس لكي تنجح على خلاف ما جرى في دول الربيع العربي، وأن هذه الضمانات موجودة أولاً في الشعب التونسي وفي النخب والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. ويوضح العكرمي "مثلاً الكل يلعب دور المعارضة في البرلمان والكثير من نواب الائتلاف الحاكم ومن حزب نداء تونس، الذي يقود السلطة، لا يصوتون على مشاريع قوانين الحكومة. وتابع الانتخابات والتداول السلمي على السلطة أصبحا شبه عادة في تونس، والآن يجري تركيز المؤسسات الدستورية وإصدار القوانين الديمقراطية. وترافق عملية البناء الديمقراطي شكوكاً في ضوء غياب واضح لشريحة هامة من مكونات المجتمع المدني، وهم الشباب الذين قاطعوا انتخابات 2014 ولا يتواجدون في مراكز القرار، فضلاً عن أن أنشطتهم محدودة داخل المجتمع المدني المعني بالانتقال السياسي. ويفسر صلاح الدين الجورشي، وهو محلل سياسي وناشط في المجتمع المدني وكان رئيساً للمجلس التأسيسي الموزاي لفترة ما بعد الثورة، أن النخب السياسية لم تنجح في إقناع جزء هام من الشباب، وهم الفئة العمرية الطاغية في تونس، من أجل المشاركة في الانتقال الديمقراطي. ويعترف الجورشي في حديثه مع DW عربية قائلاً "لا يمكن بناء ديمقراطية ونضمن لها الاستمرارية دون حد أدنى من مشاركة كافة الفئات الاجتماعية وفي مقدمتها الشباب والنساء". ويوضح أنّ الحكومة والمجتمع المدني يمتلكان الوعي بأن الإنجازات السياسية ومفاهيم الحكم التشاركي والديمقراطية المباشرة وحدها ليست كافية لوضع تونس على بر الأمان، وما لم يكن ذلك مترافقاً مع الاقلإع الاقتصادي وتحسين مستوى المعيشة وتعميم التنمية وفرص العمل في الجهات الداخلية الفقيرة، التي تعرف نسب بطالة تقترب من 50 بالمئة، فإن خطر الانتكاسة يظل قائماً. ويشير الجورشي إلى أن حالة الريبة تستند إلى أن تونس لا تزال في مرحلة التأسيس وهي مرحلة تتسم بالهشاشة والغموض واحتداد التناقضات بين الفئات الاجتماعية، وهي تناقضات ذات طابع ثقافي واجتماعي واقتصادي. وبحسب الخبير فإن تونس تظل نموذجاً يحتذى به لأنها بالمقارنة مع دول أخرى في المنطقة العربية نجحت في الصمود أمام المخاطر الداخلية ومخاطر المحيط الإقليمي، الذي يشهد حالة فوضى ويفرض ضغوطاً مضاعفة على تونس كي تنجح وتشكل استثناءً. ولعل أكبر التحديات لأن تصمد وتمضي قدماً في ترسيخ مؤسساتها الجديدة، هو أن تكسب حربها المعقدة ضد الارهاب. ويقول الجورشي "إن خطورة الارهاب تكمن في أنه يعطل حالة الانتقال الديمقراطي ويخلق حالة من الإرباك ويستنزف الثروات ويخيف المواطنين". ولا تبدو تونس قادرة لوحدها على كسب هذه الحرب ومواجهة باقي التحديات إذا لم تكن هناك مساعدات فعلية من المجتمع الدولي لإنعاش اقتصادها المتعثر ودعم جيشها بالتجهيزات والعتاد. ويشير الجامعي الألماني كلاوس هوفمان من جامعة فوبرتال، وهو خبير في القوانين الانتخابية والديمقراطية التشاركية، أنّ التجربة في مصر يبدو أنها فشلت إلى حد ما، لكن تونس مختلفة عن بقية دول الربيع العربي. لذلك من المهم جداً، رغم كل الظروف، العمل على كسب هذا التحدي وإنجاح النموذج التونسي. وبحسب الخبير الألماني، يتعين الانطلاق أولاً في توفير فرص العمل وضمان حياة كريمة للمواطنين، ثم تأتي في المرحلة الثانية المشاركة في المسار الديمقراطي. وشدد هوفمان في المقابل على أنه كلما كان الشعب غير راض عن حكومته كلما تعثر مسار الديمقراطية وفي الواقع، فإن الحكومات المتعاقبة في تونس منذ 2011 لا تبدي رضاها عن حجم التعاون والدعم الدولي لها قياساً بالكلفة الهائلة التي تتطلبها مراحل الانتقال ديمقراطي ومحدودية مواردها في مقابل تصاعد حربها ضد الإرهاب. ويعلق صلاح الدين الجورشي على ذلك قائلاً "هناك وعي لدى الدول الغربية بأن تونس تحتاج إلى دعم وليس وصاية أو حماية، ولكن مشكلة هذه الدول أنها لم تصل إلى مستوى الاستعداد لتقديم مساعدات جدية لتونس. هناك مساعدة أمنية، لكن الأمن وحده لا يؤمن الانتقال الديمقراطي". وأضاف الجورشي "أوروبا في حاجة إلى أن تراجع علاقتها بتونس كبلد يشق طريقه الى ديمقراطية ناجحة".