حياد الدولة والرئاسة والحكومة بين فرقاء الساحة السياسية والانتخابية مطلوب وأساسى، ولكن هناك فرق بين الحياد الإيجابى والحياد السلبى، فالأول يعنى دوراً من أجل الصالح العام والمساهمة الإيجابية فى وضع قواعد قانونية وأطر سياسية تعمل على تشجيع المواطنين على المشاركة السياسية وتمثيل التنوع السياسى داخل البرلمان عن طريق وضع قواعد قانونية تنظم البيئة الانتخابية وتضمن سيرها بطريقة شفافة ونزيهة، وهو ما لم يحدث حتى الآن، لأن المعتمد هو سياسة الحياد السلبى التى يغيب عنها أى اجتهاد من أجل وضع أى قواعد تنظم الانتخابات أو الإعلام أو أداء الداخلية وأجهزة الدولة، مع أن المطلوب هو حياد إيجابى يؤسس لقيم جديدة ونظام جديد وليس الحياد السلبى الذى يترك الفساد والإفساد وسوء الأداء يكتسب خطوات كل يوم دون أى قواعد تحول دون انتشاره. الحياد السلبى هو الوجه الآخر للانحياز والترصد، وكلاهما خطر على مصر، فمبارك لم يكن محايداً، لا بالمعنى الإيجابى ولا السلبى، وانحاز لرموز نظامه من سياسيين وإعلاميين وكتاب، ولحزبه الوطنى الديمقراطى بالحق والباطل، وترك الكثيرين ينهبون ويزَوِّرون، باعتبارهم جزءاً من نظامه الذى انحاز لهم وانحازوا له. والغريب أن التحول الذى شهدته مصر بعد ثورتى يناير ويونيو أفضى إلى وجود رئيس يحكم بقدر معتبر من الرصيد الشعبى وليس لديه حزب سياسى ينحاز له، ولا إعلاميون أو كتاب متحدثون باسمه، وكثيرا ما كرر أكثر من أى رئيس آخر، وربما أكثر من اللازم، أنه لا يوجد أحد محسوب عليه، وهو غير محسوب على أحد، وانتظر الكثيرون- ومازالوا- أن تتحول هذه الفرصة التاريخية والحالة الحيادية الفريدة فى غياب «حزب الرئيس»، (ولو مؤقتاً)، إلى حياد أو فعل إيجابى يؤسس لنظام جديد. القضية ليست فى الجلوس مع الإعلاميين ولا نصيحتهم بأن يحبوا بعضاً ويلتزموا بالخلق القويم، إنما متابعة قانون تنظيم الإعلام وإصداره، وهو أهم من عشرات القوانين التى صدرت وتغيرت فى 6 أشهر، نفس الأمر يتعلق بباقى القوانين المنظمة للحياة السياسية والانتخابية، فكثير منها ظل حبراً على ورق، ولا توجد هناك رسالة واحدة تقول إن هناك قواعد جديدة دخلت حياتنا المهنية أو السياسية، إنما نفس العك والتخبط والعجز عن الحركة. إن الحديث عن هيبة الدولة نراه عادة فى مواجهة شباب ثورى أو رياضى أو وقفة احتجاجية لعشرات، ولكننا لم نره فى محاربة الفساد والمال السياسى وتنظيم المجال العام والعملية الانتخابية، على الأقل بوضع آليات جديدة تطبق النص القانونى الخاص بالحد الأقصى للإنفاق ومحاربة البلطجة مثلما تحارب الوقفات الاحتجاجية أو الألتراس، وهى كلها أمور تركت بمنطق «مالناش دعوة»، وهو ما سيضر أبلغ الضرر بالعملية السياسية. فى مصر، الخريطة السياسية تقول إن هناك انقساماً عميقاً بين أطراف كثيرة شاركت فى 30 يونيو، وخطاباً إقصائياً غير مسبوق، ويطالب البعض كل يوم الرئيس بالتدخل لعزل رجال الحزب الوطنى وفلول النظام القديم أو الأحزاب الإسلامية، حتى لو التزمت بالدستور والقانون، لأنها أحزاب دينية، ويطالب البعض الثالث بفضح المؤامرات الخارجية، ويدَّعِى أنها تجسدت فى ممارسات بعض ثوار 25 يناير ومنعهم من الترشح فى الانتخابات القادمة، باعتبارهم أجندات، وهناك من يرى ضرورة إقصاء كل السياسيين الذين تجاوزوا السبعين عاما، لأنه حان وقت رحيل دولة العواجيز. فرصة الرئيس أنه لا ينتمى لأى من هؤلاء، فهو ليس ناشطا شارك فى ثورة 25 يناير، حتى لو آمن بمبادئها، ولم يكن عضوا فى الحزب الوطنى ولا حزب النور ولا ينتمى لدولة العواجيز، وبالتالى ستظل هناك فرصة أن ينال أى خطاب يصدر منه ثقة هذه الأطراف المختلفة إذا كان يؤسس لمرحلة الانتقال إلى الحياد الإيجابى، الذى يؤسس لمنظومة جديدة لإدارة العملية السياسية، غير قائمة على ثقافة الإقصاء وتجرم خطاب التخوين والتكفير ويتجاوز بها حالة الحياد السلبى على طريقة لسنا طرفا، ويؤسس لمرحلة جديدة يتنافس فيها الجميع بشكل حر وفق قواعد جديدة وبعيدا عن الدولة وأذرعها. مهمة مشروع الحياد الإيجابى ليست المشاركة فى رفض إعادة ترشيح رجال الحزب الوطنى، إنما فى تفعيل القواعد القانونية والدستورية التى تحول دون عودة ممارسات الحزب القديمة مرة أخرى من تزوير وبلطجة ومال سياسى. لا أحد يتكلم تقريبا عن ضرورة احترام القانون وتطبيق الحد الأقصى للإنفاق المالى على كل المرشحين، إنما فقط يهتف الجميع: «امسك فلول»، و«الحق حزب وطنى» حتى ملأوا قوائم المرشحين. الهدف من خطاب الإقصاء ليس وضع قواعد قانونية جديدة تساعد على تقدم البلاد، إنما إخلاء الطريق من المنافسين من أجل الوصول السهل للسلطة ومحاولة احتكارها، فى حين أن مهمة الحياد الإيجابى هى وضع هذه القواعد دون أن يخل ذلك من حياد الرئاسة ومن وقوفها على مسافة واحدة من جميع التيارات. الحياد الإيجابى يعنى بناء شراكة جيلية وسياسية حقيقية على أساس معيار الكفاءة والقدرة على العطاء، بصرف النظر عن السن والجيل، فالانتماء للشباب ليس عملاً أو مهنة فى ذاتها، فهناك شباب يتعلم كل يوم وقادر على الاحتجاج والبناء فى نفس الوقت، وهناك شباب يناضل بشراسة على الفيسبوك ولا علاقة له بالناس ولا الواقع المعاش. الحياد الإيجابى يعنى أيضا أن يتنافس الجميع خارج ثقافة الإقصاء، لأنهم إذا تنافسوا فى ظل قواعد فرضتها سياسة الحياد الإيجابى سيعنى ذلك عملياً تطوير مهارات كل طرف وإمكانياته، أما إذا بقينا فى حالة الحياد السلبى فمعنى ذلك أن الكل سيتنافس على قديمه دون أى قواعد من أى نوع ولا قيم جديدة ولا نظام جديد. الحياد السلبى خطر كبير علينا تجاوزه. *نقلاً عن "المصري اليوم"