خرج التحالف الدولي ضد «داعش» في باريس هذا الأسبوع باستراتيجية ناقصة. فوزراء خارجية الـ24 دولة لم تكن لهم مواقف موحدة في شأن العراق أو سورية، لا لجهة تقديم الأسلحة والتكتيك العسكري، ولا لجهة المطلوب سياسياً. الإدارة الأميركية تتحدث الآن بلغة الحرب «الطويلة» على «داعش» ووزيرة الدفاع الألمانية تقول إنه لا يمكن تحقيق تقدم سريع في مكافحة هذا التنظيم. مقولة «الصبر الاستراتيجي» أميركية أساساً، إنما ما حصل هذا الأسبوع هو إطالة فترة الثلاث سنوات التي تحدثت عنها واشنطن قبل سنة، بلا تحديد سقف زمني جديد. إذاً، نحن أمام إبلاغٍ آتٍ من الغرب بأن على المنطقة العربية الواقعة بمعظمها على حافة الانهيار والتفتت أن تلتزم «الصبر الاستراتيجي» باسم دحض «داعش» – ذلك التنظيم الشريك في الصبر لأن في ذهنه الإطالة ليتسنى له تدمير وتفتيت الدول العربية وحضاراتها وتحويل شعوبها إلى قطيع يرعاه. هذا التنظيم هو مساهم أساسي في شرذمة العرب لأن الساحة العربية تشكل قاعدة انطلاقه إلى «الدولة الإسلامية» البديلة عن الدول العربية. حربه ليست على الدول الإسلامية من إيران إلى إندونيسيا. حربه يشنها على العرب وهو بمعظمه من العرب. فإذا وجدت إيران في تنظيم «داعش» تهديداً وجودياً لها، إنها محقة. إنما هذا التنظيم هو العدو الأول للعرب، أكثر مما هو لإيران. ساحته تمتد من العراق إلى سورية إلى ليبيا وغيرها وأهدافه تطاول مصر والخليج وبالذات السعودية. لذلك، إن كل من يرى في «داعش» الرد الطبيعي على امتداد إيران في البقعة العربية، أو من يرى فيه وسيلة التصدي السنّي للشيعة، إنما هو شريك له في التدمير الممنهج للدول وللشعوب العربية. وإذا فشل التحالف الدولي في صياغة استراتيجية متكاملة، على الدول العربية التوجه إلى طاولة رسم الاستراتيجيات الآنية والبعيدة المدى لأن الصبر الاستراتيجي يعني زوالها. وتلك الاستراتيجية لا تتوقف عند سورية والعراق لأن اليمن أيضاً يشكل جزءاً من استراتيجية استنزاف الدول الخليجية التي عليها اليوم أن تستدرك أخطاءها في العراق وسورية وليبيا وأن تأخذ في يدها زمام المبادرة في اليمن. اليمن يشكل اليوم أهم امتحان للعلاقة الأميركية - الخليجية، بالذات الأميركية - السعودية، لأن التحالف العربي في اليمن لا يلقى موقفاً أميركياً يتفهم منطق التحالف العربي. إدارة أوباما لا توافق رأي التحالف العربي حول الدور الإيراني في اليمن، لأنها لا تريد أن تستمع ما يمكن أن يعكّر عزمها على إبرام الاتفاقية النووية وإقامة علاقة تحالفية مع طهران. فالولايات المتحدة مستعدة للاستغناء عن علاقتها الأمنية والتحالفية مع دول الخليج إذا خُيِّرت بينها وبين العلاقة التي تصبو إليها مع إيران. كما أن إدارة أوباما قررت أن النزاع في اليمن ليست لطهران يد فيه وإنما هو نزاع محلي حيث لإيران تأثير مع الحوثيين، إنما طهران ليست طرفاً في ذلك النزاع. هذا فارق شاسع بين المنظور العربي والمنظور الأميركي لحدث اليمن. والذين تحدثوا إلى صنّاع القرار في الإدارة الأميركية في أعقاب القمة الخليجية - الأميركية في كامب ديفيد وجدوا أن إدارة أوباما مصرّة على تصوّرها وهي ترى أن الرد السعودي والعربي على تطورات اليمن كان «مفرطاً». اليوم، قد يكون في المصلحة السعودية الإصرار على عدم الانزلاق إلى مستنقع في اليمن وهذا يتطلب إما استراتيجية إقدام عسكري نوعي، أو استراتيجية خروج. فإما يقوم التحالف العربي بالتدخل المحدود على الأرض عبر إنزالٍ بحري لضمان المدن المهمة في اليمن كعدن، لإحداث نقلة نوعية عسكرية على الأرض، أو يتبنى استراتيجية خروج مدعومة بخطة «مارشال» لإعادة بناء اليمن بنيوياً بشراكة دولية، إنما بأموال عربية. الأمم المتحدة لم تحصد لنفسها سمعة تعيين مبعوثين استطاعوا النجاح في المهام الموكلة إليهم، والأرجح ألا يكون المبعوث لليمن استثناء. إنما في وسع السعودية الاستفادة من المبعوث الأممي والانقسام في مجلس الأمن عبر مزايدات روسية وبريطانية وأميركية. فإذا قررت أن في مصلحتها تبني استراتيجية الخروج من اليمن، إن الأمم المتحدة بمختلف أدواتها تشكل أداة. ويمكن، بالطبع، وضع شروط على الآخرين في استراتيجية الخروج التي لا تعني الخسارة أو الهزيمة وإنما تعني قطع الطريق عليهما. عُمان تقدم نفسها ساحة الحوار والتفاهم للولايات المتحدة مع أطراف المنطقة ولذلك استضافت مؤخراً لقاء بين كبيرة الديبلوماسيين الأميركيين للشرق الأوسط آن باترسون، مع ممثلين عن الحوثيين. ومعروف أن عُمان استضافت المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران. بدلاً من التذمر من تغريد عُمان خارج السرب الخليجي، لعل من المفيد اليوم استخدام الضيافة العُمانية في إطار استراتيجية الخروج من اليمن. الاستراتيجية الكبرى التي من الضروري للقيادات الخليجية التفكير فيها بعمق يجب أن ترتكز على مراجعة الأخطاء الاستراتيجية التي ساهمت في الوصول إلى حيث المنطقة العربية اليوم. فلكل أزمة حل لو توافرت العزيمة ووُضِعَت الإمكانيات وراءها. إنصاف الخطوات أو سياسات الحرد وخيبة الأمل لن تفيد. فالمراجعة الاستراتيجية ضرورية لحماية المنطقة العربية من الانزلاق إلى الانهيار والتفتت. في العراق، تم ارتكاب أخطاء عدة من ضمنها التعالي عن الانخراط فيه، فتركت الدول الخليجية فراغاً تمكنت إيران من الاستفادة منه. اليوم، يقع العراق على أنغام التقسيم والصراع المذهبي الدموي. كثير من المشاريع تُعَدُّ له، وكلها تدميرية أو تقسيمية. رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أعلن من باريس حيث اجتمعت الدول لمراجعة الاستراتيجية نحو «داعش»، أن «داعش» يشكل «فشلاً» للعالم بأسره واعتبره مشكلة دولية. اجتماع باريس طالب العبادي بـ «ضبط» «الحشد الشعبي». وتضمن البيان الختامي تأكيد أعضاء التحالف الدولي ضد «داعش» الحاجة الضرورية إلى إنشاء قوة حرس وطني لبسط سلطة الدولة على جميع الجماعات المسلحة، في إشارة إلى ميليشيات «الحشد الشعبي». الغائب الحاضر عن اجتماع باريس كان إيران التي تقدم نفسها إلى الولايات المتحدة بصفة الشريك الذي يمكن الاعتماد عليه لمحاربة «داعش» في العراق وفي سورية بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك استمرارها في الدعم القاطع للنظام في دمشق «حتى انتهاء» النزاع. العراق في حاجة إلى الجدية العربية والدولية لتمكينه من هزيمة «داعش» من دون أن يتحول إلى ساحة إيرانية أو يتقسّم إلى ثلاثة أجزاء. أما الحرب على «داعش» في سورية فلها معطياتها المختلفة عن تلك التي في العراق. فابيوس أبلغ المجتمعين في باريس أن القتال وحده لن يدحر «داعش» وأن عملية سياسية سورية ضرورية تحت إشراف الأمم المتحدة لإحداث تغيير في سورية. في سورية، لن توافق الدولتان العازمتان على التمسك ببشار الأسد - روسيا وإيران - على العملية السياسية الانتقالية التي تؤدي إلى إبعاده عن السلطة، فكل ذلك الكلام عن ابتعاد روسي عن الأسد أو استعداد إيراني للتفاهم مع الولايات المتحدة ليس سوى للاستهلاك بينما سورية ماضية إلى الهلاك. لا أحد يبدو مستعجلاً لدفع سورية بعيداً عن حافة الانهيار. المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا يأخذ وقته ويمارس ذلك «الصبر الاستراتيجي» الذي أطلقه الرئيس الأميركي باراك أوباما وتبنته ألمانيا وإيطاليا وربما الاتحاد الأوروبي برمته. إدارة أوباما دخلت حرباً مع صحيفة «نيويورك تايمز» بسبب مقالة شككت بالتزامات إيران في المجال النووي ورفع العقوبات بل نصبت وزارة الخارجية - والبيت الأبيض معها - نفسها محامي الدفاع عن إيران، إلى هذا الحد وصل هوس إدارة أوباما بصياغة تركته ليسجل له التاريخ إنجاز تأبط الولايات المتحدة الشريك الإيراني وهي تتجه شرقاً تاركة وراءها الشريك الخليجي التقليدي. المفاوضات النووية هي الأولوية ولا تبالي أميركا أو أوروبا - وبالتأكيد لا روسيا ولا الصين ولا الهند ولا البرازيل - بالممارسات الإيرانية في اليمن أو سورية أو العراق. وهكذا، وفي انتظار الحدث التاريخي الواقع اليوم بين ساق وزير الخارجية الأميركي جون كيري المكسورة وبين ظهر وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف المعطوب، تمضي المنطقة العربية إلى الانزلاق وتطالَب بالصبر الاستراتيجي بدعوة من جميع المعنيين. وعليه، لا مناص من حشد التفكير الجدي في الخيارات الاستراتيجية المتاحة للمنطقة العربية لوقف الانزلاق إلى التشرذم والمستنقعات.