كيف يمكن القضاء على «داعش»؟ حضر هذا السؤال بقوة خلال الأيام الماضية، بينما يستدعي العالم والمنطقة باستحياء المقصّر الذكرى السنوية الأولى لسقوط الموصل، ثانية كبريات مدن العراق بيدها. مرت الذكرى ببلاد «داعش»، و «دولتها الإسلامية» المزعومة، التي كانت إيذاناً بتحولها الحقيقي من حال «المنظمة الإرهابية البغيضة» إلى «الدولة البغيضة»، من دون احتفالات أو عرض عسكري. لا أعرف ما إذا كان مجلس الحكم عندهم اجتمع ذات ليلة وناقش ما إذا كانوا سيحتفلون للمناسبة ويخصصون «يوماً وطنياً» مثل بقية الدول، لعل أحدهم حاول أن يتقرب إلى «الخليفة» البغدادي فقال إن يوم إعلان «الخلافة» هو ما يستحق التكريم ويكون «اليوم الوطني للدولة»، ولكن حسم الأمر مفتيهم الشرعي، أن «اليوم الوطني» بدعة، ولا يجوز شرعاً، فهز الجميع رؤوسهم معلنين قبولهم برأيه وشكروه لأنه ذكرهم بعدما كادوا يفتتنون ببدع العصر والدول الحديثة. ولكن هذه مشكلتهم، أما «هم» فهم مشكلتنا التي لم نجد لها حلاً بعدما أكملوا عاماً كاملاً يحكمون أكبر دولة جغرافياً في الهلال الخصيب، تحكم وتدير حياة أكثر من 6 ملايين مواطن، يتزوجون ويطلقون ويبيعون ويشترون ويتحاكمون وفق قضائها الشرعي، يتعلم أبناؤهم بمناهج وضعتها، يسافرون بوثائق تصدرها، صكّوا عملة تخصهم، يدعون أبناءنا للنفير والهجرة إليهم كي يعودوا إلينا «فاتحين» يجددون إسلامنا، فشكَّلنا مع الولايات المتحدة، أو شكلت هي معنا (ثمة فرق) تحالفاً للقضاء عليها، ولكننا لم ننجح جميعاً في ذلك، بل لم ننجح حتى في وقف تمددها، إذ احتلت الشهر الماضي الرمادي في العراق، وبعدها بأيام تدمر في سورية، واقتربت من العاصمة دمشق، تحت أنظار التحالف وطائراته وأقماره الاصطناعية، لا يمر يوم إلا ويصرح مسؤول في المنطقة أو في عاصمة غربية أنه يرفض وجودها ويدعو إلى حربها، فما العمل؟ من الواضح أن دول المنطقة متفقة على رفض «داعش»، وهي أيضاً ترفض كل دول المنطقة، ولا تعترف بأي شرعة دولية، ولا تريد اعترافاً بحدود أو أن تحتل موقعاً في الأمم المتحدة، فطالما أننا عجزنا عن إسقاطها، وقد اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما أكثر من مرة بأنه لا يمتلك «استراتيجية كاملة» للقضاء على «داعش»، كان آخرها قبل أسبوعين في قمة الدول السبع، فهل يمكن، بناء على هذا العجز المعترف به، تجاهلها حتى تفشل من الداخل وتنهار مثل ألبانيا أنور خوجة، التي عزلت نفسها عن العالم وعاشت بضعة عقود قبل أن تنهار مع من انهار إثر سقوط الشيوعية؟ أعتقد ذلك، ولكن هذا ينطبق فقط على حال «داعش العراق»، ولكن لا ينطبق على «داعش سورية» و «داعش» المنظمة الإرهابية، فما الفرق؟ هناك ثلاث حالات لـ «داعش»، ويجب أن يُتعامل مع كل حال بما يتفق مع ظروفها، ولنبدأ بالأسهل: «داعش» المنظمة الإرهابية، هي تلك التي تضرب في بلدان مستقرة مثل السعودية أو تونس، وهذه لا تمكن مواجهتها بغير القوة، ذلك أنها تمارس الإرهاب كي تصل بتلك الدول إلى حال التوحش والفوضى التي تمكنها بعد ذلك من التمدد والسيطرة مثلما فعلت في العراق وسورية، فالحرب الصارمة عليها وقاية واستئصال لفايروس لو ترك لتوالد وانتشر. الحال الثانية «داعش سورية»، وهذه لا يمكن الانتصار عليها من دون عزل السبب الذي أدى إلى انتشارها، والسبب هنا هو النظام السوري الذي يتماهى معها وإن بدا أنهما على عداء، فكلاهما مشروع صفري لا يقبل المشاركة. يعلم النظام أن عدوه الحقيقي هو الثورة التي تحمل مشروعاً بديلاً للدولة السورية يقوم على التعددية ويتعايش مع الآخر داخلاً وخارجاً، وبالتالي يمكن أن ينتصر ويلغيه، بينما يجد في مشروع دولة «داعش» مبرراً لوجوده وحربه على الثورة بزعم أنه يحارب التكفيريين، وهو خطاب حلفائه الإيرانيين و «حزب الله» نفسه، وبعكس العراق، فإن «داعش سورية» لا تتمتع بحاضنة شعبية لا تجد غيرها بديلاً، فمن هم تحت ولايتها لن يترددوا في الترحيب بفصائل الثورة الأخرى لو استطاعت تحريرهم من بطشها وطيشها، بينما لا يجد سنّة العراق بديلاً عن حكم «داعش» غير حكومة طائفية و «حشد شعبي» اشتط طائفية وبطشاً. بعد سقوط النظام، لن تجد الدولة السورية الوليدة القادمة، على عرجها وتفرقها المتوقع وحاجتها إلى دعم خارجي حتى تستقر وتتحد، بديلاً من مواجهة حتمية مع «داعش»، وعسى ألا تسقط دمشق بيدها قبل غيرها من الفصائل فتزداد المهمة صعوبة. ستكون حرباً عقدية قاسية بين إسلاميين، فلن يفل الحديد غير الحديد، الثوار بإسلام سني معتدل وإن اكتنفه تشدد نتج من الحرب وقسوتها وطول أمدها، وإسلام خارجي تكفيري، ولا حاجة إلى ذكر مع من ستقف دول المنطقة حتى لو تحفظت واشنطن أو لم تفهم الفرق بينهما. «داعش» العراق هي التي تصعب هزيمتها بحرب، وربما تستحيل، إلا أن يُهدم ما لم يهدم بعدُ في العراق السني، مذبحة طائفية تلو الأخرى، برعاية إيرانية وقصف أميركي، سنّة العراق يستحقون أفضل من هذا، ولكن من يقنع حكومة بغداد بذلك وقد استسلمت لأقبح مشاعر الطائفية والتعصب والكراهية؟ الطائفية هناك حالها من حال داعش «باقية وتتمدد»، وبالتالي فإن الأفضل لدول المنطقة الابتعاد والنأي عن أي شراكة مع القوم، والضغط عليهم وعلى الحليف الأميركي المشترك أن تستبدل المواجهة بالحصار، تترك دولة «داعش» حيثما هي في العراق الأوسط، وتحديداً في الموصل وما حولها، حيث لا تزال تنعم بسلام نسبي ونجت من الدمار والتخريب الذي اشتركت «داعش» و «الحشد» الشيعي في إلحاقه بشقيقاتها تكريت والأنبار والرمادي والفلوجة. ستسقط في النهاية، فهي لا تملك مقومات الدولة، وقد عزلت نفسها عن المنطقة والعالم. في تلك الأثناء، قد يتفق العالم على مشروع ما يقسم به العراق، يضع حداً لتجاوزات الحكومة، ويعطي أملاً لسنّة العراق بأن ثمة بديلاً لهم غير «داعش» وطائفيي بغداد. ربما يحصل انقلاب، ثورة، ليس كل من حول البغدادي مؤمن بأساطيره و «دولته» التي ستمتد حتى روما، إنهم حوله لأنهم لا يريدون العودة إلى ظلم شقيق لم يعرف كيف يحافظ على أخوة الدم والدين. ربما يحصل تغيّر في بغداد أو حتى طهران يبعدهما من غلو التعصب وأساطير الثأر ومناجزة بني أمية وجيش يزيد. حتى ذلك الحين، نركز على حالي «داعش» الأولى والثانية، وننتظر الثالثة تسقط من تلقاء نفسها بأقدار الله وسننه. من جريدة الحياة