لقد كنت أتمنى أن أزور إسطنبول منذ زمن بعيد وقد تهيأت لي الظروف، وأقنعني الأولاد بمرافقتي والذهاب هناك على حسابي!، ففوضت أمري إلى الله وسافرت إلى بلاد العم عثمان لأقف على هذه الدولة التي حافظت على تخلفنا مشكورة 500 سنة بالتمام والكمال. وشاءت الظروف أن امضي ثلاثة أيام من رمضان هناك، وفي اليوم الأول اعتقدت أن المؤذن نسينا، ولكني اكتشفت أنه معذور فصلاة المغرب تقام في الساعة التاسعة مساء والعشاء في الحادية عشرة تقريباً يعني (سلم لي) على الليل، ومع ذلك لم تنقطع حياة الليل في رمضان، ومع أن تركيا بلد إسلامي إلا أن المسافر لن يشعر برمضان الا في ساعة الإفطار. حيث تصبح الشوارع خالية تماماً من زحمة السيارات مع أن ذلك هو الوضع الطبيعي للحياة اليومية في شوارع إسطنبول. وتركيا لازالت بلداً عظيماً كما هي في السابق، وسبب عظمتها أنها خليط من الأعراق والثقافات، وهذه التشكيلة العرقية كانت حصيلة الاستعمار التركي لهذه الأعراق، ولذا ستجد البلغار والأرمن والأكراد والألبان والصرب والعرب والعجم والروس، ولكنهم اليوم كلهم في الهم تركمان، والأتراك كالعرب والفرس أو ككل شعوب العالم يعتقدون أنهم «خير أمة أخرجت للناس» وزيادة، ولديهم نزعة تركية تقصر دونها نزعتنا للقومية العربية فلا أحد أحسن من أحد، وبشكل عام فإن الاتراك شعب طيب إلا سائقي التاكسي، فمن الممكن أن يجبرك سائق الأجرة على النزول في أنقرة، ويقول لك هذه إسطنبول. وكعادتي في السفر حاولت أن أتعلم شيئاً من اللغة التركية، فوجدتهم يتمضمضون بالكلام ويموتون حباً في حرف (الأو) أو الواو كما نسميها فهم (يوؤون) وكأنهم يعوون، ولغتهم خليط من العربية والفارسية واللاتينية، وقد فعل فيهم كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة ما لم يفعله ستالين في الشعوب القوقازية، فقد ألغى الحروف العربية وابتدع لهم حروفاً لاتينية ولكن على طريقته الخاصة، ومع أنها حروف معقدة ومختلفة إلا أنهم هضموها وكأنها ولدت معهم، وبسبب حذاقة أو حماقة أتاتورك انقطع الأتراك عن تاريخهم الذي أصبح غير مفهوم لهم إطلاقاً، واليوم هم مسلمون ولكن على ذمة التاريخ فقط، وإمعاناً في التطرف للغة التركية دبلجوا كل القنوات العالمية إلى التركية، فكل المحطات التلفزيونية من الإنكليزية إلى الصينية تنطق بالتركية، ولو استطاعوا لجعلوا الحيوانات هناك تغرد بالتركي! وإسطنبول اليوم أصبحت قبلة السياح ومزار العاشقين للتاريخ، ففيها من الأثار ما يجعل المسافر يعيش جميع العصور، فهناك ستجد أثار الدولة البيزنطية أو الرومانية، إضافة طبعاً إلى الآثار العثمانية، ويقال إن مدينة (طروادة) الأسطورية تقع تحت أنقاض إسطنبول أو في تركيا عموماً. المهم أن الأتراك فهموا اللعبة، فاحتفظوا بهذا التراث الضخم، وحولوه إلى متاحف وحتى المساجد هناك أصبحت متاحف، ولك أن تصلي وللسائح أن يدخل ويتفرج على المصلين ويلتقط صورة تذكارية معهم، وقد ذكرني مشهد أفواج السياح في تركيا بمشهد الحجاج في مكة (كرمها الله)،حيث ستسمع هناك كل لغات العالم، والعرب بكل تصنيفاتهم موجودون (وبالكوم) وخصوصا السوريين الذين تحول بعضهم إلى شحاذين وتحول الشحاذون الأتراك إلى سوريين لزوم الشغل. المهم أن الأتراك فهموا لعبة السياحة، فراحوا يؤلفون التاريخ ويختلقون الآثار، ففي زيارتي إلى المتحف التاريخي والإسلامي ( تب كابي بلاس) وجدت أثار الدنيا كلها ومن سيدنا موسى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أما بالنسبة للصحابة فحدث ولا حرج فكل سيوفهم معروضة هناك، فسيف عمر بن الخطاب موجود وكان طويلاً ليتلاءم مع هيبته، وكان سيف سيدنا علي كبيراً جداً وعريضاً بالنسبة لباقي السيوف ليتماشى مع قوته طبعاً، أما سيف عثمان فكان ضعيفاً ورقيقاً كرقة سيدنا عثمان رضي الله عنه، أما سيف جعفر الطيار فقد كان غليظاً وطويلاً جداً ولا أعتقد أن شخصا عاديا يستطيع حمله! وسيجد السائح في المتحف مصاحف عدة أهمهما مصحف عثمان وكأنه مطبوع أمس في مطابع القاهرة! وكان من الممكن أن تمر هذه الآثار مرور الكرام علينا، ولكن الأتراك شطار في هذا المجال، فقد عثر الأتراك على طبعة لقدم النبي محمد عليه الصلاة والسلام ويبدو أن من أخذ الطبعة لم ينتبه أنها لقدم رجل فيه (فلات فوت)! بل ان خصلات من شعر لحية الرسول تجدها منشورة هنا وهناك في المتحف!، ولم يكتف الأتراك بالتاريخ الإسلامي فلعبة الآثار سهلة ومربحة، فزانت اللعبة لهم، وعرضوا لنا عصا موسى التي تحولت إلى أفعى ولا أدري كيف عثروا عليها!، ليس هذا فقط بل ستجدون أغراض سيدنا داود الخاصة (عليه السلام) معروضة للفرجة في المتحف، وحتى بقايا ذراع سيدنا أيوب ستجدونها ولكنها مطلية بالذهب ربما كنوع من التحنيط والقدسية في آن واحد، وفي نهاية المتحف يوجد من ضمن الآثار المعروضة شيخ دين بلباس تركي وهو حي ويرتل القرآن بصوت جميل ولا أدري من هذا الشيخ المعمم أو من أي عصر ولا أدري سبب وجوده هناك! أما تركيا السياسية فلم أجد لها أثراً في الشارع بتاتاً، فالدولة تمشي مثل الساعة، وهي حال الدول التي تنتهج الديموقراطية، فالحياة مستمرة وتداول السلطة لا يرتبط بشخص طويل العمر أو بحزب أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، بل ترتبط بدستور حديث وشبكة من القوانين المنظمة للدولة وهذا ما جعل تركيا اليوم دولة أوروبية بلباس شرقي فضفاض.
لم استطع منع نفسي من ابداء اعجابي بالمقال وطريقة سرده الجميله ووددت ان لاينتهي