أثار تسريب إحدى القنوات «الإخوانية» لما يُعتَقد بأنه تسجيل لحوار بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وبعض معاونيه جدلاً كبيراً في وسائل الإعلام الخليجية ومواقع التواصل الاجتماعي. التسجيل الذي لم تثبت حتى الآن صحته ولا زيفه، لم يحمل مواقف استراتيجية كبيرة ومتغيرة ضد دول الخليج، إنما كان أشبه بحديث المجالس المغلقة الذي تُرمى فيه زكوات الآراء ومكملاتها، للخروج فقط بدائرة مكتملة من «طرح كل شيء» قبل الدقيقة الأخيرة من الاجتماع. نفي التسجيل وعدم الإيمان بصدقية التسريبات يجعلان من كتابة هذه المقالة ترفاً زائداً، فالنفي لا يحتاج عادة إلى أكثر من كلمتين: لا تغيير. لذلك سأفترض صحة التسجيلات وأبني على هذا الافتراض الموقف الخاص والعام، كما أراه. توزع الجدل حول التسجيلات خليجياً على مسارين لا ثالث لهما. المسار الأول تلوّن بحملات عدوانية موجهة ضد السيسي وحكومته، ودعوات لحوحة للحكومات الخليجية بقطع العلاقات مع النخبة المصرية الحاكمة، والعودة من جديد إلى التواصل مع جماعة «الإخوان» الذين هم، بحسب عرّابي هذه الحملات، كائنات ودودة لا تحمل للخليج إلا كل خير. والمسار الثاني تصدى له فريق يرفض حتى مجرد الحديث عن التسريبات، ويضع الأمر كله في خانة المؤامرة الإخوانية التي تهدف إلى إلحاق الضرر بالعلاقة الخليجية - المصرية الحالية، ويطلب من الحكومات الخليجية عدم الالتفات مطلقاً لما ورد في التسجيلات، واعتبار الأمر بقضه وقضيضه سحابة صيف إخوانية شتتها الله فلم تمطر. وما بين موقفي الجدل هذين، يقف رأيي مقارباً الوضع الذي وجدنا أنفسنا فيه بعد التسجيلات بالأوضاع الذي سبقتها والأوضاع التي ستتلوها. لن أصطف مع الانهزاميين المؤدلجين الذين يسحبون الحياة من مؤخرتها أملاً في إيقافها وإرجاعها إلى فراديسهم المتخيلة في عقولهم. لن أكون مع هؤلاء الذين يسيرون في قطعان إخوانية معلقة عيونها في عقل واحد وظهر واحد. ولن أكون في الوقت نفسه في صف الذين تتشكل مواقفهم كردود أفعال فقط، أولئك الذين وجدوا أنفسهم مشغولين على طول الخط بصنع مواقف ضدية لكل ما يطرحه «الإخوان» والمتعاطفون معهم، حتى وإن كان ذلك على حساب الواقعية والصدقية، وفي بعض الأحيان على حساب المصالح الوطنية. سأكون بين الفريقين وسطاً، وأقول إن على الحكومات الخليجية أن تتعامل مع التسريبات بعقلية براجماتية، تمسك عصا العلاقات من المنتصف. فليس مطلوباً منها أن تُدير ظهرها بالكامل لمصر السيسي، وليس مطلوباً منها أيضاً أن تنسى بعض الحديث الذي ورد في التسريبات. هذا الموقف الوسطي يستلزم عدم اتخاذ موقف خليجي رسمي من تسريبات ومواقف مسجلة غير رسمية. موقف مصر الرسمي المعلن كما نعرفه يتمثل في كلمتين استراتيجيتين مهمتين هما «مسافة السكّة»، ويقابله في المقابل التزام خليجي بالوقوف مع الأشقاء في محنتهم الحالية حتى يتجاوزوها. أما الموقف غير الرسمي في الجلسات الخاصة، فينبغي أن يواجه بمواقف غير رسمية وتلميحات خاصة بخيبة الأمل في جلسات خاصة، لا ينبغي للخليجيين أن يعطوه أكبر من حجمه وظروفه، لكن عليهم تسجيل ذلك فقط في دفتر العلاقة حتى لا يُنسى. الرئيسي السيسي وفريقه الحكومي دأبوا منذ ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٣ على اقتناص الفرص الرسمية وغير الرسمية للإشارة إلى دور السعودية والكويت والإمارات الكبير في إنقاذ مصر من المأزق الإخواني التي سقطت فيه، وحفظوا لهذه الدول الجميل، الذي هو في النهاية واجب تمليه العروبية من جهة والمصالح المشتركة من جهة أخرى. ومثلما هو متوقع واصلت الدول الخليجية دعمها اللامحدود وغير المشروط لمصر من غير حتى أن توازن هذا الدعم بمصالحها الخاصة. واليوم بعد التسجيلات سقطت استراتيجية «مسافة السكّة» التي طالما تبناها الرئيس السيسي في النور في مستنقع «هات وخذ» الذي صنعه أحد معاوني الرئيس في الظلام في التسريب الأخير. وعليه فإن الموقف الخليجي الرسمي تجاه مصر ينبغي أن يظل كما هو، لكن على الـ«هات» أن تبدأ في العمل بعد أن أدت أختها «خذ» ما هو مطلوب منها. تريد الدول الخليجية من مصر أن تقف معها في أزمات المنطقة كافة. تريد دخول مصر الثقيلة معها من غير شروط؛ لإنهاء الأزمة السورية. تريد كذلك موقفاً واضحاً وعملياً وخطة قابلة للتطبيق للتدخل في اليمن وإنقاذه من السيطرة الحوثية المؤتمرة بنظام الملالي في طهران. الـ«هات» تستلزم أيضاً أن يكون هناك مقابل لبلايين الدعم يتمثل في تسهيل الاستثمارات الخليجية في مصر وليس وضع العراقيل الإدارية كما هو حاصل اليوم. وإذا كان لدى الإخوة في الحكومة المصرية «هات وخذ» جديد فعليهم مصارحة أشقائهم الخليجيين به، كي لا نضطر في المستقبل إلى الاستماع إليه عن طريق طرف ثالث يكرهنا ويكرههم. يُقال إن التسجيل كان في شباط (فبراير) ٢٠١٤، لكن ذلك لا يسقطه بالتقادم، فما يحتويه هو رأي قابل للعيش والامتداد في السنوات المقبلة من دون أن يتغيّر، إذ إنه كان تالياً للوقفة السعودية الشهيرة مع ثورة ٣٠ يونيو. لكل شيء ثمنه، هذا أمر صحيح، لكن الأمر يحتاج إلى جردة حساب لمعرفة الدائن والمدين قبل الوصول إلى نقطة التوازن التي يصح عندها مبدأ «هات وخذ». «الفلوس اللي زي الرز» الغالية عند أصحابها، قابلة للعدِّ، ومواقف الطرفين من الممكن رصدها بسهولة، لكن أعيد وأكرر، ينبغي أن يتم ذلك في أجواء غير رسمية، ولتبقى المواقف الرسمية كما هي: شوكة في عيون المتربصين والانقلابيين و»الإخوان» ومن شايعهم. *نقلا عن جريدة "الحياة اللندنية"