الممتع في متابعة المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة هي «رقصة التعري» التي تُجبَر عليها الآيديولوجيا على مسرح الواقعية السياسية. لا نضيف جديدًا إذا قلنا، إن الولايات المتحدة نظام شديد البراغماتية. من التحالف مع ستالين في مواجهة هتلر مرورًا بزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الصين وبدء رحلة تغيير النظام الشيوعي المثيرة، بحيث بتنا أمام صين رأسمالية بقناع شيوعي! وصولاً إلى التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية والانتقال بها من لوائح الإرهاب إلى مؤتمرات السلام الدولية، وغيرها الكثير من الانعطافات السياسية. إيران، في المقابل، دولة عقائدية بامتياز، بل ثورة بكنية دولة، وإن كانت سيرة النظام فيها لا تخلو من الكثير من البراغماتية والحنكة، بل إنها في المناسبات المفصلية، غلَّبت المصالح القومية الإيرانية على ثوابت الآيديولوجيا. لكنها الآن تواجه التحول العقائدي الأبرز من خلال مسار المصالحة مع واشنطن، وبعلنية فاقعة تتصدرها الابتسامات والمجاملات المثيرة بين وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والإيراني محمد جواد ظريف. الحقيقة أن إيران لطالما سعت في السر إلى عقد الحوارات والتفاهمات مع واشنطن. أكثر الأمثلة تداولاً في هذا الشأن هو التعاون الاستخباراتي واللوجيستي بين واشنطن وطهران في الحرب على أفغانستان، لإسقاط نظام طالبان، عام 2001 وإعادة تكوين السلطة في هذا البلد. ثم التعاون في حرب إسقاط نظام صدام حسين في العراق. وقبل ذلك صفقة السلاح الشهيرة بين إيران وإسرائيل وأميركا المعروفة بـ«إيران غيت»، في ثمانينات القرن الماضي، أو عرض الاتفاق الشامل الذي تقدمت به طهران عام 2003 لواشنطن عبر الدبلوماسية السويسرية وكشفت تفاصيله صحيفة «واشنطن بوست». ومن الأمثلة التي لم يتم التداول بها كثيرًا الرسالة التي كشف الرئيس السابق لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي أنه حملها عام 2004 إلى البيت الأبيض، من كبير المفاوضين النوويين حسن روحاني وفيها عرض من النظام للتفاوض مع واشنطن، إلا أن الرسالة لم تلقَ الاهتمام من الرئيس الأميركي جورج بوش. كل هذا تم في السر ولطالما أتاح انكشافه، القدرة على نفيه، على عكس العلنية التي تصاحب اللقاءات الأميركية الإيرانية اليوم والتي باتت تكتسب الكثير من العادية! الأمر المثير المصاحب لهذا المشهد، هو انعكاس هذه العادية على العلاقات الإيرانية الإسرائيلية وتحديدًا على علاقات أدوات إيران في المنطقة بإسرائيل وبآيديولوجيا الصراع معها. تعرف الجمهورية الإسلامية أن أي اتفاق مع واشنطن لن يكون إلا بضمانات جدية لأمن إسرائيل. لكن اللافت أن تعبر عنه إيران بوضوح كجزء من الأثمان التي تستعد لدفعها في سياق الوصول إلى اتفاق، كما يكشف الكتاب الذي وضعه قبل أشهر الدبلوماسي الإيراني السابق والرئيس الأسبق للجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمن القومي الإيراني والمتحدث السابق باسم إيران خلال التفاوض مع الاتحاد الأوروبي سيد حسين موسويان. ففي كتابه «إيران والولايات المتحدة» الصادر في لندن ونيويورك كجزء من حملة العلاقات العامة الإيرانية في الغرب يكشف موسويان، عن جوانب خطيرة لطبيعة الصراع الإيراني الإسرائيلي وعلاقته المباشرة بالعلاقات الإيرانية الأميركية. يعتبر الدبلوماسي الإيراني، والباحث في معهد وودرو ويلسون الأميركي (!) أن استمرار العلاقة الصراعية بين واشنطن وطهران سيؤدي إلى تقوية العداء بين الجمهورية الإسلامية وإسرائيل. وإذ يلاحظ موسويان أن العلاقة بين بلاده وإسرائيل سيئة منذ ثورة الخميني، إلا أنه يقر بأن تدهور هذه العلاقات هو نتيجة مباشرة لتردي العلاقات بين إيران وواشنطن، وبالتالي ينفي صفة الأصالة العقائدية عن الاشتباك الإيراني الإسرائيلي. وعلى الرغم من استدراكه أن تحسن العلاقات الأميركية الإيرانية لن يقود إلى صداقة إيرانية إسرائيلية، لكنه يجزم أن المصالحة بين «نظام الثورة» و«الشيطان الأكبر»، سيفقد النزاع الإيراني الإسرائيلي زخمه، وهو اعتراف فاقع من قبل شخصية دبلوماسية إيرانية، إن علاقة إيران بالقضية الفلسطينية هي علاقة استخدامية واستثمار لطالما سعت إيران إلى صرفه لصالح مصالحها القومية وعلاقاتها الدولية لا سيما مع أميركا. وهو اعتراف يبدد الكثير من الهراء الآيديولوجي الذي تتحفنا به الأدوات الإيرانية في الدول العربية لا سيما حزب الله في لبنان، ويكشف حجم الارتباط بين هذه الأدوات وبين المشروع الإيراني على حساب مصالح وطنية خاصة، كمصالح لبنان، ومصالح عربية عامة، لطالما تأذت من المشروع الإيراني وتوظيفه لعناصر داخلية، باتت تهدد وحدة بعض الدول العربية وسلامة مجتمعاتها. هذا معروف ومتداول، لكن ميزته هنا في صدوره على لسان إيراني من قلب النظام! ويضيف موسويان، أن توصل إيران والولايات المتحدة إلى اتفاق حول البرنامج النووي، يمنح الفوز للطرفين معًا، من شأنه أن يخفف التوتر بين إسرائيل وإيران، كما أن التوصل إلى اتفاق سلام شامل مع إيران يحفظ أمن الجمهورية الإسلامية يفيد بألا تقدم طهران على عرقلة اتفاق للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، يحظى بإجماع الفصائل الفلسطينية. (أين ذهبت كل الترهات عن قدح السلام وذمه!!). ولأن موسويان يدرك أن على إيران أن تحيل قضية الصراع مع «الكيان الصهيوني» إلى التقاعد يفصح بأريحية عن التحول العقائدي الذي تمر به طهران وعن الانتقال بجدول أعمالها إلى دور جديد وعدو جديد يعطي أدواتها أدوارًا وفرصًا للبقاء. فيجزم بأن السلام بين إيران، كقوة إقليمية، وبين الولايات المتحدة الأميركية، كقوة عظمى، سيسمح للطرفين بالتعاون ضد «العدو التكفيري المشترك»، الذي يبدو أنه مرشح للحلول مكان، «العدو الصهيوني»! تستطيع إيران أن تبتلع هذا التعري الآيديولوجي كدولة، وكشعب يبدو أنه ليس شديد الاكتراث بالقدس، بقدر اهتمامه بنيويورك مثلاً. لكنه سيكون صعبًا على أدوات طهران أن تتأقلم مع هذه التحولات لا سيما حين تجد نفسها بلا قضية كبرى وبلا قداسة تغطي عوراتها. أدوات إيران ستنتقل من محاربة إسرائيل إلى حمايتها كضمانة لها للبقاء، وكدور يتيح لها الجلوس على الطاولة. وفي الوقت نفسه ستنخرط هذه الأدوات في المزيد من تفتيت دول المنطقة ومجتمعاتها باسم محاربة الإرهاب، بغية تكبير حضورها وأدوارها في الحروب الأهلية العربية.