رغم حالة الصخب التي عشناها طوال شهر رمضان بسبب تعرض أغلب المشاهدين لزخات متلاحقة من المسلسلات والبرامج، انهالت علينا بلا رحمة و«لا إحم أو دستور»، فإن أكثر صوت سوف يمكث طويلاً في الأذن والذاكرة بعد رمضان هو «تيت تيت»، الذي يعني أن هناك كلمة أفلتت هنا أو إشارة هناك، وكان ينبغي ألا تسجل أصلاً، على الفور تستيقظ الغدة الرقابية بداخل المسؤول، ليشهر سلاح الصفارة فتصبح هي الحل. الكثير من البرامج، بل وعدد لا بأس به من المسلسلات، لجأت إلى تلك الحيلة. الغريب في الأمر ليس «تيت تيت»، ولكن كل محطة فضائية أو حتى أرضية وضعت لنفسها قاعدة خاصة بها تتناول من خلالها وضع مقياس «ترمومتر» الأدب، وهكذا من الممكن مثلاً أن يتم التصريح بكلمة تستمع إليها واضحة المعالم نقية الحروف عالية النبرة في قناة فضائية، بينما تجدها في أخرى وقد صارت ضمن قائمة المحظورات حيث يعلو صوت «تيت»، المتلقي غالبًا يبحث عن القناة التي لا تزعجه بتلك الصفارة. المواطن العربي بينه وبين هذا الصوت رحلة من الإزعاج وسوء الظن، بينهما عشرة قديمة تعود ربما إلى مرحلة الخمسينات من القرن الماضي، التي عرفناها مع انتشار موجات الإذاعات الموجهة، حيث كانت الدولة تعتبر أنها فقط المسؤولة عن الرسالة التي تريد لمواطنيها أن يعتنقوها، وهي فقط التي تذيع لهم الخبر الذي ينبغي لهم أن يقرأوه، ولهذا مثلاً، فإن إذاعة مثل الـ«بى بي سي» البريطانية أو «مونت كارلو» الفرنسية كانتا تصنفان أحيانًا باعتبارهما من الأعداء عربيًا، لأنهما كانتا وقتها تبثان أخبارًا لم تكن السلطة في الدول العربية تريدها أن تصل للشعوب، بحجة أنها تروج لأخبار كاذبة أو في الحد الأدنى تجافي الحقيقة التي يبثها الإعلام التابع للدولة، كنا نعيش في عصر الصوت فلم يعرف عالمنا العربي البث التلفزيوني؛ إلا مع مطلع عام 1960، ورغم ذلك فإن التلفزيون الأرضي كان ولا يزال من الممكن السيطرة عليه، وبين الحين والآخر وتبعًا لتوجهات تلك المحطات وغيرها كانت تتحدد معالم الرقابة، بل إنه عندما يشتعل الموقف سياسيًا بين دولتين عربيتين كانت كل منهما تُشهر الصفارة في وجه الأخرى، فلم يكن الأمر قاصرًا على كلمة أو خبر بل تشويش 24 ساعة يوميًا. كان هذا هو قانون البث الإذاعي والتلفزيون الأرضي، ولكن مع انتشار الفضائيات العربية قبل نحو عقدين من الزمان دخلنا إلى معركة أخرى وهي التشويش عبر الأقمار الصناعية، وكالعادة تنشط سبل الحماية وكثيرًا ما تلجأ الرقابة بين الحين والآخر لاستخدام سلاحها القديم وتلك الصفارة التي صارت تعبر عن وسيلة بدائية للحماية الاجتماعية لرعاية قيمها. هل الصفارة لا تزال قادرة على توفير الأمان للأسرة؟، على الرغم من أن ما لا تسمعه تشير إليه، ببساطة، الكلمات الأخرى قبل وبعد الصفارة، كما أن ما تعتبره فضائية يحمل تجاوزًا من الممكن أن تجده كاملاً على الأخرى. وصل الأمر أن تلفزيون مصر الرسمي مثلاً يمنع تقديم صورة ضابط شرطة منحرف؛ إلا أنك تجد هذا المشهد الممنوع، وقد صار معروضًا كاملاً في كل الفضائيات الخاصة المجاورة للتلفزيون الرسمي. بقدر ما ينبغي لنا أن ننادي بالحرية وإنهاء استخدام صفارة التشويش تمامًا، أو قائمة المحظورات، بقدر ما أن على العامين في دنيا الإعلام الالتزام بمعايير تمنع التجاوز، فلقد انتهى منذ زمن بعيد زمن «تيت تيت».