جوهر الحديث الأخير للأمين العام لحزب الله أنه يريد «ضمانة» للسماح للبنانيين بانتخاب رئيسٍ للجمهورية. وضمانته: انتخاب الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية، التي يكاد يمضي عامٌ ونصفٌ وهي دون رئيس. أما لماذا هذه الضرورة للضمانة؟ فلكي لا يخرج الرئيس العتيد على نهج الممانعة، أو ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة! وإذا عرفنا أنّ الأمين العام لحزب الله يمتلك تنظيمًا مسلَّحًا يشنُّ الحروب في لبنان وسوريا والعراق.. واليمن، وأماكن أخرى نعرف بعضها ولا نعرف البعض الآخر، يصبح الأمر مثيرًا للعجب والسخرية والمفارقة الصارخة؛ إذ من الذي يحتاج إلى «ضمانة» في هذه الحالة: الطرف القوي بل الأقوى الذي يقرر ما يريد بالقوة، أم خصومه الذين لا يملكون من الأمر شيئًا؟ فمنذ عام 2005 يتساقط خصوم السيد حسن نصر الله صرعى في لبنان من سياسيين ومثقفين ورجالات جيشٍ وأمن، وإلى حدّ أننا لم نعد نعرف السبب أو «الذنب» الحقيقي لهذا المقتول أو ذاك، إلاّ بالطبع: اعتبار الأمين العام، وحليف الرئيس الأسد أنّ هؤلاء خصوم يستحقون التصفية. وبعد عام 2013 امتدت سطوته إلى سوريا والشعب السوري، هو لا يزال يخوض الحرب هناك على السوريين بالقتل والتهجير. وقد قال في حديثه الأخير إنه ليس نادمًا على خوض الحرب على السوريين، بل هو نادمٌ على أنه لم يخضها قبل ذلك، أي منذ عام 2011! فإذا كان المشهد اللبناني على هذا النحو منذ عام 2005، والمشهد السوري على هذا النحو منذ ثلاث أو أربع سنوات، وكان هذا دور حزب الله وإيران في المشهدين وغيرهما، فمن الذي يحتاج إلى ضمانٍ وضمانة: حزب الله أم اللبنانيون الآخرون غير المسلحين، والذين لا يريدون شيئًا غير استمرار الدولة، وانتخاب رئيسٍ لها في المجلس النيابي؟! إن لم تمضوا أيها الساعون للسوء والغدر لانتخاب عون أو من يوافق الأمين العام على «مواصفاته» - هكذا قال - فلا رئيس، بل وهناك «خيارات» أخرى يمكنكم توقعها: انتخاب الرئيس (عون بالطبع!) من الشعب مباشرةً، أو إجراء انتخابات نيابية بناءً على قانونٍ للانتخاب يضمن حصول الحزب وأنصار عون على أكثريةٍ فيها (سبق لهما أنْ خسرا الانتخابات مرتين في عامي 2005 و2009)، وإن لم يعجبكم هذا أو ذاك أو ذلك، فعندكم «خيار» المجلس التأسيسي أي إعادة تأسيس الجمهورية بالشكل الذي يضمن سيطرة جماعة نصر الله على الجمهورية التعيسة إلى الأبد! ولماذا هذا كلّه؟ لأن نصر الله يمتلك السلاح، وخصومه لا يمتلكون السلاح! لقد كان من «فضائل» العسكريين العرب اجتراح نهج الانقلابات العسكرية. وهو نهجٌ حوَّل الدول الوطنية الناشئة إلى ثكناتٍ وشموليات. وبسبب فشل تلك الأنظمة على طول مدتها، ظهرت في ثناياها البدائل الميليشياوية: الفلسطينية أولاً ثم الإيرانية الطائفية ثانيًا. كان الفلسطينيون يقولون في الأردن ولبنان إنهم يريدون الانطلاق من الجوار لتحرير فلسطين. إنما لكي يأمنوا وتكون حركتهم التحريرية حرة، فلا بد أن يسيطروا على النظام في البلد الذي ينطلقون منه. ولأنهم فشلوا في التحرير، فإنّ إسرائيل هي التي احتلت أجزاء من دول جوار فلسطين. وهكذا حلّت الميليشيات المتأيرنة والأخرى المتأسلمة محلَّ الميليشيات الفلسطينية، وفي لبنان أولاً، ثم صارت هي البديل لأنظمة الدول في كل مكان. فحتى في دولةٍ ذات أكثرية شعبية شيعية مثل العراق، انتهى الأمر بدولة ولاية الفقيه إلى تفضيل «الحشد الشعبي» على إدارة الدولة التي سيطرت هي على نظامها بمساعدة الأميركيين! ولا يقتصر الأمر اليوم بالطبع على لبنان والعراق، بل هناك الميليشيا العلوية التي يرعاها بشار الأسد والإيرانيون في سوريا، والميليشيا الحوثية باليمن، والتنظيمات الشيعية السرية بالبحرين والكويت، والميليشيات الموالية بقطاع غزة. إنه نمطٌ جديدٌ عمله الوحيد تحت اسم المقاومة أو الممانعة: تفكيك المجتمعات، وتخريب الدول والبلدان. ولأنه صار نمطًا (ميليشيا طائفية)، فحتى في الدول التي لا شيعة فيها مثل ليبيا انتشرت الميليشيات. كما أن الميليشيات الإيرانية والمتأيرنة أنتجت مضاداتها وإنما على مثالها، مثل «داعش» و«النصرة»، التي تحمل أيضًا شعارات وعناوين المقاومة، المقاومة لمن؟ ما عاد أحد يفكر بالطبع بإسرائيل. فميليشيات إيران تقاوم التكفيريين والإرهاب. وميليشيات التطرف السني تفعل الأفاعيل. وحتى عندما اكتشف الرئيس الروسي بوتين، أنه هو بدوره يريد مقاومة الإرهاب إلى جانب الرئيس الأسد، ما تردد في إعطاء «ضمانات» لإسرائيل بأنّ ذلك لمصلحتها. وقد يتوسط الرئيس الروسي بوتين لإدخال نتنياهو في الحلف الذي صاغه ضد الإرهاب والمكوَّن من إيران والميليشيات العراقية وميليشيات بشار الأسد بقيادة روسيا. ولا ندري فربما وجد الرئيس أوباما نفسه في هذا التحالف أيضًا، ما دام همّه الأوحد مكافحة «داعش»! قبل عامين ونيف، وتحت وطأة الضغوط المباشرة لعودة الاغتيالات، وتدخل الحزب في سوريا، ظهر في صفوفنا عددٌ من الشبان الانتحاريين الذين أرادوا الانتقام للاغتيالات وقتل السوريين وتفجير المساجد في طرابلس. وكانت تلك المرة الأولى، لأن الانتحاريين السابقين كانوا من الشبان السوريين أو الفلسطينيين، وهي المرة الأولى كما قلت، التي خرج فيها هؤلاء من صفوفنا بطرابلس والبقاع وصيدا، ومضوا باتجاه مناطق الحزب وتجمعاته والسفارة الإيرانية. يومها جزعنا نحن أكثر من جزع الحزب، واعتبرنا ذلك مصيبة، وانصرفنا إلى صفوفنا وشباننا قصد مصارعة هذه الظاهرة المفزعة، وظواهر مثل أحمد الأسير. ذلك أنه إذا انتشرت ثقافة الموت المتعمد ضد المدنيين من أجل الانتقام، فإنّ المجتمعات تتفكك وتنتهي، ووقتها بالذات كان الأمين العام للحزب يطوف على كوادر حزبه وخلاياه وحوزاته، ويُلقي المحاضرات عن ضرورات التحشد والهجوم للدفاع عن المذهب ضد «التكفيريين» الذين سيغزون النجف وكربلاء وقم، إن لم تجر المبادرة لدفعهم بالقوة عن مزارات آل البيت ومقاماتهم: وأين كانت المزارات ووجوه الأخطار؟ في القُصير والقلمون وحلب، التي ليس فيها مزارٌ واحد لآل البيت. ولكي لا يبقى لدى أحدنا وهمٌ أو تردد، ها نحن بعد سنتين ونيف، نجد الحزب والإيرانيين، وقد قتلوا في سوريا ما لا يقل عن عشرين ألفًا، يعمدون بعد تهجير الأحياء من القصير والزبداني، يحاولون أن يُحلُّوا محلَّهم شيعة من قريتي كفريا والفوعة الشيعيتين بإدلب، مثلما فعل الصهاينة ويفعلون في فلسطين فيما بين القتل والتهجير والاستيطان! كلهم، ومن الأمين العام للحزب وإلى خامنئي وبوتين ونتنياهو يريدون منا نحن العرب المقتولين؛ سوريين ولبنانيين وفلسطينيين ويمنيين، ضمانات من طريق الخضوع للأسد وعون والمستوطنين والحوثي لاستدامة السيطرة، فيا للعرب! * نقلا عن "الشرق الأوسط"