لا تحاول الولايات المتحدة إنقاذ ماء وجهها أو تغيير سياستها في سورية، مثلما قد يوحي به احتجاجها مع حلفائها الأطلسيين على الانتهاك الروسي للأجواء التركية أو معاودتها الحديث عن خطط لتدريب وتسليح معارضين سوريين، بل هدفها تحويل الأنظار عن مشكلة رئيسية بالتركيز على مشكلة «أكبر» منها. فالتحذير من احتمالات الصدام مع الروس والتهويل بخطر اندلاع اشتباك دولي في الأجواء السورية وتكثيف المساعي والدعوات إلى تجنب مواجهة قد تنجم عن خطأ أو سوء فهم، يدفع إلى الواجهة الخلفية واقع التدخل العسكري الروسي وأهدافه ويوفر غطاء لعدم رغبة واشنطن في مواجهته، بل على الأرجح اتفاقها غير المعلن مع مراميه. أما الذين راهنوا على أن التدخل الروسي في سورية سيسهل التسوية السياسية ويجعل وقف النزيف البشري والمادي الهائل ممكناً، فخاب أملهم بعدما اعلنت موسكو انه ليس مطروحاً «ربط آفاق التسوية السياسية بمسار العملية العسكرية الروسية»، وإنها ماضية في خطتها لإنقاذ نظام الأسد وشخصه عبر إرسال المزيد من السفن الحربية إلى الساحل السوري وإرسال معدّات للقوات البرية تشمل بطاريات مدفعية وراجمات صواريخ، وتأكيدها ان «كل من يحارب الجيش النظامي السوري» هدف لطيرانها. ومع اكتظاظ السماء السورية بطيران حوالى عشر دول، صار السوريون وقضيتهم مجرد تفاصيل في «الكباش» الدولي، او هذه هي الرسالة المراد توجيهها من الضجة المثارة ومن التشديد الأميركي والروسي على ضرورة التنسيق، حتى لو كان حصول مناوشة من طريق الخطأ أمراً وارداً. لكن نموذج الترتيبات التي اعتمدت بين روسيا وإسرائيل يكشف ان تلافي الصدام ممكن وسهل عملياً ولا يحتاج كل هذا الاستنفار الإعلامي. فالتحرش الروسي المتكرر بتركيا ليس هدفه بالطبع الوصول الى مواجهة مع الحلف الأطلسي، بل تهيئة الأجواء امام اعتراف اميركي وغربي بأن موسكو باتت طرفاً مباشراً في سورية لا يمكن تجاوزه لا عسكرياً ولا سياسياً، ولا بد من مراعاة شروطها في اي تسوية، ولو بعيدة زمنياً، بدءاً من مشاركة الأسد في المرحلة الانتقالية وصولاً الى اضعاف اي معارضة لبقائه طالما استمرت الحرب على «داعش» واستمر «التهديد الإرهابي» للعالم. وعندما اعلنت واشنطن وصول طلائع القوات الجوية الروسية الى الساحل السوري، الأمر الذي كانت تعلم به قبل اسابيع، أرفقت ذلك بعرض لموسكو بالانضمام الى الحلف الذي تقوده ضد «داعش»، لكن الروس رفضوا الدعوة بحجة ان هذا الحلف لا يتمتع بغطاء دولي مشروع وليس صادراً من الأمم المتحدة، بل هو قرار اتخذته اميركا وحلفاؤها ولم يحظ بموافقة دمشق، مثلما هو الحال في العراق الذي دعا الأميركيين الى التدخل ضد متطرفي «الدولة الإسلامية»، ومثلما فعلوا هم عندما حصلوا على «تفويض» من الأسد. وحين عجز بوتين خلال اجتماعه مع أوباما عن إقناعه بالموافقة العلنية على استمرار نظام الأسد بعد المرحلة الانتقالية، لجأ الى لعبة التحرش بالأتراك، فاتحاً الباب امام قبول الأميركيين بطلبه مداورة، بحجة الرغبة في تلافي تصعيد دولي. وتلقفت واشنطن بسرعة خطوة موسكو التي اكدت انها ترغب في تنسيق اوسع في «الحرب على الإرهاب» وليس مجرد مناقشة آلية تلافي الاشتباك الجوي. وبانتظار التوصل الى تفاهم علني يريح الطرفين، لا تبدو مهمة «تنظيم السير» في السماء السورية مستعصية على دولتين بهذا الحجم، ذلك ان كل هذا التهويل بخطر حصول اشتباك انما هدفه التغطية على اتفاقهما الضمني على بقاء الأسد.