سمير السعداوي
بغض النظر عن تهليل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا لنتائج الانتخابات التي أعطته قدرة على التفرد بالحكومة، فإن الاستحقاق الديموقراطي الذي خاضه الأتراك الأحد الماضي، ينطوي على رسائل سياسية يتعين النظر إليها بعناية.
فاز الحزب الحاكم بـ 49.5 في المئة من مقاعد البرلمان، وحسّن مواقعه، حتى عما كانت عليه في عام 2007 (46 في المئة)، لكن النتيجة ظلت أقل من طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان باتخاذ قرار بمفرده بتغيير النظام من برلماني إلى رئاسي.
الذين اقترعوا لمصلحة «العدالة والتنمية» فعلوا ذلك لأنهم يستحسنون إنجازاته لجهة بناء طرق جديدة ومطارات وتطوير بنية تحتية واستثمارات في شكل عام. وكما هي الحال في أنحاء العالم، فإن خيار الناخبين الأتراك مبني على معايير اقتصادية، أي أنهم ينظرون إلى جيوبهم قبل الإدلاء بأصواتهم، في حين أن أقلية لا تتجاوز الأربعين في المئة تقترع على أسس أيديولوجية أو عرقية.
قد لا يكون خيار الأتراك متعلقاً مباشرة بخلفية الحزب الحاكم الدينية، لكنه بلا شك مستند إلى تفضيلهم الاستقرار على الفوضى في وقت فرض حزب «العدالة والتنمية» عليهم المفاضلة بين تمكين السلطة أو «الإرهاب».
ولا شك أيضاً في أن التصويت للحزب الحاكم يعكس تناغماً مع سياساته بعامة، لجهة «رفض الرضوخ للإملاءات الأوروبية»، فالأتراك، خصوصاً المحافظين والقوميين منهم، قانعون بالاكتفاء بما سعت الحكومة إلى تحقيقه لجهة إعفائهم من تأشيرة سفر إلى أوروبا، وهم باتوا مقتنعين بأن الدول الأوروبية غير راغبة في انضمامهم إلى اتحادها، ولم ينطلِ على أحد في تركيا، أنها ستصبح يوماً ما «دولة أوروبية».
وفي إطار هذا التناغم، يجد الأتراك أنفسهم أكثر تفاعلاً مع هموم المنطقة العربية ومشاكلها، من سورية إلى فلسطين مروراً بالعراق، واهتمامهم بما يجري في سورية لا يقل درجة عن الإيرانيين، مع الأخذ في الاعتبار التباين في وجهة النظر حيال المشكلة والحل. وهم أيضاً أكثر اهتماماً بالقضية الفلسطينية وعداء للممارسات الإسرائيلية.
غير أن ثمة رسالتين أهم على الصعيد الداخلي، الأولى مفادها أن الأتراك ما زالوا متمسكين بالتعددية السياسية ولا يريدون هيمنة مطلقة لحزب واحد، لذا لم تتجاوز النسبة التي حصدها «العدالة والتنمية» الخمسين في المئة من أصوات الناخبين، وبذلك لم يستحوذ على ثلثي مقاعد البرلمان.
أما الرسالة الثانية فهي أن الغالبية في تركيا لا تريد سلاماً بأي ثمن مع الأكراد وترفض الرضوخ للابتزاز. هذا بغض النظر عن النقاش العقيم حول من استفز الآخر، الحكومة أم المقاتلون الأكراد في الجنوب الشرقي، فالنتيجة واحدة أن لا حل من خلال فوهة بندقية، ولا رضوخ سوى لسطوة الدولة التركية ومؤسساتها العسكرية. وهذا أمر يشترك فيه الإسلاميون والعلمانيون.
ما تقدم، لا يعني التقليل من أهمية الإنجاز التاريخي الذي حققه حزب أردوغان، بفوزه بالسلطة للمرة الثالثة على التوالي، ولو أتى هذا الفوز دون طموحاته، سواء كان نتيجة إخفاق مرتبط بأداء الحزب أو بفعل «مؤامرات» داخلية أو خارجية كما يحلو لأردوغان أن يصورها.
ذلك لا يعفي الرئيس من المسؤولية التي تقتضي منه إصلاح عيوب وسد ثغرات في حزبه، كما تقتضي تفهمه أنه لم يعد هناك حزب قادر على احتكار المشهد السياسي من دون أن يكون ذلك على حساب الممارسة الديموقراطية. وهذا أمر كاد الحزب الحاكم ينزلق إلى «اقترافه»، في ممارساته حيال معارضيه، لولا أن الصيغة التركية أثبتت إلى الآن نجاحها في إبعاد شبح التسلط عن البلاد.
* نقلا عن "الحياة"