البيان- بما لم تصل العلاقات السعودية - الإيرانية في تاريخ العلاقات بين البلدين منذ الحرب العراقية - الإيرانية إلى مثل هذه الدرجة من التصعيد. ويبدو أن التصعيد الحاصل حاليا بين السعودية وإيران هي نتيجة تراكمات كان آخرها الاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد. وكان الموقف السعودي حاسماً في هذه المسألة فالاعتداء على السفارات والممثليات الدبلوماسية هو اعتداء صارخ بمثابة اعتداء على الدولة. وهي ليست المرة الأولى التي تحدث مثل هذه الحوادث في إيران فهي لها تاريخ مشهود في ذلك.
السعودية تمارس حقاً سيادياً وبغض النظر عن المبررات التي ينظر فيها الآخر إلى عملية تنفيذ الأحكام القضائية التي صدرت في مجموعة من الإرهابيين من بينهم نمر النمر, فالمسألة تتعلق بسيادة دولة والتدخل في الشأن القضائي لدولة أخرى هو تدخل في شأن سيادي ترفضه القوانين والعلاقات الدولية. وإيران نفسها ترفض أن يتدخل أحد في نظامها القضائي فإذاَ هذه مسألة سيادة ومن الصعب أن تفصل السيادة حسب الدول فهي مسألة مبدأ. وإيران التي تمارس سياسة تعتمد على التدخل وفرض النفوذ في منطقة الشرق الأوسط ترى أن السعودية تتخذ مواقف عدائية ومتهورة. وكأنها تنتظر أن تبارك السعودية السياسة الإيرانية في تدخلها في الدول العربية وأن ترحب بتدخلها حتى في اليمن التي هي عمق استراتيجي للأمن السعودي والخليجي. لكنه الجموح التوسعي الذي تولد بعد سقوط دول عربية مهمة في الفلك الإيراني أهمها دولة العراق بعاصمتها العريقة بغداد.
والدليل المضحك المبكي هو رد الفعل العراقي الذي زايد فيه بعض السياسيين العراقيين حتى على المواقف الإيرانية, وكشفت عن بعد طائفي بغيض في السياسة العراقية، وقد حاولت السعودية أن تتجاوز كل السلبيات وأرسلت سفيرها إلى بغداد قبل أيام لتفاجأ حتى بدعوات من أعضاء في البرلمان العراقي لقطع العلاقات مع السعودية. وكأن السعودية هي من كانت تسعى لإعادة العلاقات مع بغداد. كان ينتظر من الحكومة العراقية سياسة اكثر عقلانية من الاندفاع في السياسة الطائفية المكشوفة خاصة هناك من راهن على أن حكومة حيدر العبادي سوف تأتي بسياسة متوازنة تخدم العراق بعيدا عن الطائفية أو التأثيرات الخارجية.
ومن يراجع تصريحات ايران يفاجأ بحجم رد الفعل فالمرشد علي خامئني يقول إن السعودية (ستدفع ثمن فعلتها هذه, وسيطاولها انتقام الهي). هذا الخلط الغريب, يطرح تساؤلات حول العقلية السياسية التي تدير ايران, فالنظر إلى الأمور بنظرة طائفية ورهن العمل السياسي للفكر الطائفي هو خطورة لأن الطائفية ستكون خطرا ووبالاً على الجميع وسوف تدمر المنطقة وتعيدها عشرات السنين إلى الخلف. ومن غير المنصف أن تُتهم السعودية بمخالفتها للسياسة الإيرانية من منطلق ايدلوجي يقوم على التصنيف الطائفي والدليل على ذلك حينما تولى الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني ومن بعده محمد خاتمي وطرحا سياسة معتدلة تقوم على حسن الجوار خاصة الأخير, رحبت السعودية بهذه السياسة وتطورت العلاقات بينهما حتى ان البلدين وقعا اتفاقية أمنية في ٢٠٠١ في خطوة وصفت وقتها بأنها نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين.
في حين أن الوضع حاليا يعكس حالة احتقان سياسي في المنطقة وصراع أجندات محتدم. ومن حق كل دولة أن يكون لها أجندة سياسية وطموحات لكنها حينما تتطور إلى محاولة فرض نفوذ على الآخرين وتشجيع ميليشيات في دول أخرى للانقلاب على الحكومات الشرعية في دولها ودعمها ماليا وعسكريا, يتحول هذا الطموح إلى ضرب من الجنون, ويقود المنطقة كلها إلى حافة الهاوية. القضية هنا ليست اعتراضاً فقط على تنفيذ احكام قضائية بل يتعداه إلى محاولة التدخل في الشؤون الداخلية واعتبار طهران الراعية للشيعة في كل مكان في العالم وبالتالي فهذا مشروع طائفي خطير. فالشيعة في بلدانهم هم مواطنون وإذا كان هناك اخطاء ترتكب في حقوقهم فهناك قنوات واضحة يعبرون فيها عن رأيهم ويصلون بصوتهم إلى الجهات الرسمية. إيران حينما تتدخل لدعم الطائفة الشيعية هي تضرهم اكثر مما تنفعهم وكثير من عقلاء الشيعة يعترضون على هذا التدخل لأنه يضعهم في صورة غير صحيحة وهي أن انتماءهم لإيران وليس لبلدانهم وهذا ظلم لهم.
بالتأكيد هناك خلاف سياسي واضح بين السعودية وإيران في ملفات المنطقة. والسعودية ومعها دول الخليج خاصة دولة الإمارات تحملوا مسؤولياتهم في حماية الأمن الاقليمي العربي وسد الفراغات الهائلة التي كانت نتيجة المتغيرات الاقليمية وطوفان بما يسمى بالربيع العربي. كان ممكن لإيران، خاصة بعد اتفاقها النووي، أن تضع بداية لسياسة تنتهج السلم والاستقرار والتركيز على التنمية الداخلية وبناء المصالح مع الدول المجاورة,.. لكن اتضح أن هذا جزء من الطوباوية السياسية وبان أن الصوت الناعم الذي طرحته القيادة الإيرانية كان تكتيكاً وأن ما يبدو في السطح يخفي كثيراً مما يخطط له في مشروعها السياسي. وهذا سيقود المنطقة إلى مرحلة صعبة وسيناريوهات قاتمة يدفع ثمنها إنسان المنطقة وأحلامه التنموية.