الرياض- إيران ذات السبعة والثلاثين عاماً وهو عمر الثورة الإيرانية تتصرف بطيش أمام دول المنطقة وخاصة السعودية الدولة التي عمرها أكثر من ثلاثة قرون، الأزمة السياسية للثورة الإيرانية تكمن في أنها أتت ليس كمشروع سياسي ديمقراطي ممتد لمرحلة تاريخية سابقة، ففكرة ولاية الفقية فكرة تاريخية تم دمجها كبديل إستراتيجي وغطاء سياسي للفكرة الفارسية، هذا الخلط المتناقض وبعد ما يقارب من أربعة عقود منذ قيام الثورة، بدأ ينكشف تدريجياً ولذلك فإن تصرفات إيران الأخيرة تجاه السعودية توحي بأن إيران لم يعد لديها المزيد من المكر السياسي، فالأوراق السياسية وآلية عمل مؤسسات إيران السياسية أصبحت أكثر فهماً من قبل العالم وجيرانها الخلجيين.
الفرس الذين عرفوا النظام (الكسروي) وهو نظام يصل فيه تمجيد كسرى إلى حد تأليهه "وأحياناً يوصف بصفات الألوهية، فكسرى أبرويز وصف نفسه بالرجل الخالد بين الآلهة، والإله العظيم جداً بين الرجال، مما يدل على الغرور والتعاظم، في حين وصفه المؤرخون بالملك الحقود المرائي الجشع الرعديد. وبينوا اهتمامه الكبير بجمع أكوام الذهب والفضة والجواهر التي ملأت خزائنه عن طريق المظالم التي استغل بها بؤس رعيته. وكان يلجأ إلى المنجمين والكهان والسحرة لاستشارتهم في اتخاذ قراراته المهمة" (ويكابيديا). الأزمة التي يعاني منها الفرس هو عجزهم عبر تاريخهم الطويل عن التخلي عن فكرة السلطوية المطلقة على الشعب الفارسي الذي تقلص حضارياً وانحصر في منطقة جغرافية يطلق عليها اليوم إيران، ولعل من أحد أهم الأسباب التاريخية لانتشار المذهب الشيعي في هذه المنطقة لا يرتبط بأسباب جغرافية ولكنه يكمن في قدرة مؤيدي مذهب التشيع وتحويله إلى نظام سلطوي يتحكم فيه الفقية بكل شيء، بالإضافة إلى ترسيخ فكرة المظلومية التاريخية للمريدين والأتباع، وامتزاج هاتين الفكرتين ساهم في السماح للاندماج بين تاريخ الفرس السلطوي وسلطة ولاية الفقية الدينية عبر المذهب الشيعي.
السؤال يقول ما علاقة هذه اللمحة التاريخية بكون إيران تدفع بالتاريخ باتجاه خاطئ..؟ الحقيقة ان الغرب بكل دوله وخاصة عندما سمح بقيام الثورة الإيرانية وباركها وتحملت فرنسا تحديداً أعباء نقل الخميني إلى طهران وتحملت أميركا تمهيد الطريق لثورته استخباراتياً، فقد كان الغرب يدرك بشكل واضح أن الهشاشة في التكوين السياسي لمنظومة ولاية الفقية التي أتى بها الخميني لا يمكن أن تقاوم في منطقة ذات تكوينات سياسية تتبنى التيار السني. هذه الهشاشة في نظام ولاية الفقية ومعرفة الغرب بقلة مقاومته التاريخية، جعلت الغرب يقف داعماً لمشروعه الثوري في إيران وكانت الخطوة الأولى تقوية هذا النظام وتأييد فكرة تصدير الثورة وهي فكرة عملت الاستخبارات الغربية على تعزيزها في سياسات الخميني في المنطقة، لذلك علينا ألا نستغرب الدعم الذي تحظى به إيران من قبل الغرب، ومع ذلك لم يترك الغرب الباب مفتوحاً لإيران لتفعل ما تشاء فقد كان يقلم أظافرها كلما خرجت عن خطتها المرسومة وهذا يظهر في القضية النووية تحديداً، ولم يتوقف الغرب عند ذلك فقد ساهم الغرب في حماية نظام ولاية الفقيه بطريقة ماهرة عبر الثورات التي كانت تحاول الظهور والاعتراض على الثورة وفكرة ولاية الفقية، كل ذلك يحدث دعماً لمشروع غربي ينظر الإعلان عنه في المنطقة.
عمل الغرب ولازال وفقاً لهذه النظرية داعماً لإيران بشكل كبير وقد ظهر ذلك في السياسات الغربية وتحديداً أميركا التي تركت فراغاً مقصوداً لدروها في الشرق الأوسط، كونها ترغب في تمرير فكرة الصراع المذهبي، فهي تدرك العقلية التاريخية التي يمكن أن تقود فكرة ولاية الفقية نحو المواجهة وذلك خلال أكثر من ثلاثة عقود مضت على قيام الثورة، فقد أصبحت ولاية الفقية جزءاً من التكوين الثقافي في المنطقة بأكملها وأصبحت هذه الفكرة قادرة على تكوين قوة ثقافية قادرة على تحريك المواجهة الطائفية. إذاً التراجع الغربي والأميركي تحديداً لم يكن شيئاً خفياً، ولذلك لم يعد هناك من خيار لدول المنطقة، فإذا لم يقم الغرب وأميركا بالوقوف ضد إيران بشكل مباشر فإن دول المنطقة سوف تفعل. فالسعودية على سبيل المثال لقنت إيران درساً في الذكاء السياسي وليس المكر السياسي من خلال قدرتها على إدارة معركة الاعتداء على سفارتها في طهران بطريقة ماهرة وهذه ليست المرة الأولى التي تلقن فيها السعودية الدرس لإيران فإيران التي يحكمها الولي الفقية غير قادرة مواجهة المنطقة من خلال فكر سياسي تقليدي يقوم فقط على مستند ثقافي.
السؤال الثاني يقول ماهي النتيجة المحتملة لهذا التغاضي الأميركي في المنطقة..؟ يبدو واضحاً أن الكثير من التحالفات الدولية قد تتعرض للانهيار كنتيجة طبيعية للتغاضي المقصود الذي تمارسة أميركا على إيران التي جربت قبل أسابيع عملية إطلاق صاروخ بالستي بالقرب من حاملة للطائرات الأميركية، الفكرة الإيرانية ليست منهجاً سياسياً يمكن التحكم بمعطياته فالقضية الأيديولوجية هي المنعطف الأكثر خطورة في المنطقة والأصعب في التنبؤ بمنتجاتها المستقبلية. الفكرة الغربية لن تكون ناجحة بالدرجة المتوقعة من قبل الغرب ولن يكون من السهل تفكيك المنطقة بالمذهبية كما يعتقد الغرب، بل إن المنطقة إذا ما سمح لها بتدوال الصراع المذهبي بشكل أكبر فإن التحكم بالمنتجات التاريخية سوف يتجاوز قدرة الغرب.
المطلوب من الغرب أن يتعلم من التجربة القصيرة للثورات العربية فما يبدو اليوم هو أن المخططات المحتمل تطبيقها في المنطقة من الغرب وعلى رأسه أميركا تتعرض للكثير من التحولات، كما أن على الغرب أن يدرك أن تاريخ نتائج الصراع السني الشيعي، ولذلك فإن احترام المحور السني للوجود الشيعي في إيران قد يتأثر بتدخلات الغرب، ومع أن احتمالية المواجهة العسكرية بعيدة في المنطقة، إلا أن تمديد المواجهة المذهبية سيكون الخاسر الأكبر فيه الغرب وخاصة أميركا التي تتراجع عن دورها في المنطقة بشكل غير مبرر. ليس من الخطأ الاعتقاد أن الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة إيران تساهم في دفع تاريخ المنطقة نحو الاتجاه الخاطئ، فأميركا عليها التحرك بشكل إيجابي وألا تسمح بأن تكون ذراعاً محتملة تستثمرها إيران من أجل ممارسة المزيد من التدخلات في المنطقة وخاصة الخليج، الذي قد تجد دول مثل السعودية والبحرين والإمارات نفسها مضطرة للعمل بشكل مستقل بعيداً عن تشاركيتها مع الغرب في تقديم معالجات سياسية فاعلة لأزمات المنطقة، وخاصة التوترات الطائفية وصعود الإرهاب والحرب على داعش، فكل هذه الأوراق المهمة في المنطقة يمكن أن تتحرك بشكل فاعل لتعيد التاريخ إلى بوابته الصحيحة بغض النظر عن آليات هذه الإعادة أو حجم خسائرها.