الرياض - يتعاظم حجم آسيا وحضورها في أذهان الإستراتيجيين، فالمعطيات والدلالات القادمة من الشرق الآسيوي وجنوبه الشرقي، تتحدث عن تصدر دول هذه المنطقة من العالم قوائم عدة: اقتصادية وعسكرية وعلمية، لتلقي بظلالها على الدور والثقل السياسي الآخذ بالتضاعف والصعود لتلك المجموعة.
وتخبرنا لغة الأرقام عن بعض ما يمكن أن يدفع باهتمامنا بحيث نجعل من هذه المنطقة محوراً لسياساتنا القادمة؛ نعيد من خلالها تموضعنا بعد أن حظي الغرب المتحضر المزهو بإرثه العلمي باهتمامنا لفترة طويلة، يعزز اهتمامنا التقاء المصالح بين المملكة وتلك الدول، إضافة إلى حالة التماهي الثقافي التي يمكن الاستناد عليها لنرفد من خلالها حالة التقارب والشراكة.
تُجمع البيانات الواردة من بيوت الخبرة ومراكز التفكير أن منطقة جنوب شرق آسيا تشهد قدراتها العسكرية تنامياً ملحوظاً، وحسب تقرير صادر من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فإن الميزانيات العسكرية لدول القارة الآسيوية تتفوق وللمرة الأولى في التاريخ الحديث على ميزانيات نظيرتها الأوروبية، يدعمها في ذلك بالطبع حالة التوافد الدولي على المنطقة والتخوف من نشوء صراعات بين الولايات المتحدة والصين، فواشنطن أعلنت عن استراتيجيتها «المحور الآسيوي» في الباسفيك التي تنظر لها بكين بكثير من الريبة، وهو أمر دفع دول جنوب شرق آسيا ومنها ماليزيا واندونيسيا وكذلك كوريا الجنوبية في الشرق الأقصى إلى تعزيز قدراتها العسكرية لا سيما التصنيعية
وتلك الحركة الصناعية بدأت في الثمانينيات بالنسبة لماليزيا ولم تكن وليدة الأمس، كما أن كوريا الجنوبية هي الأخرى لديها برنامج تصنيع عسكري متطور للغاية في عدة مجالات كالطائرات دون طيار، والذخائر والصواريخ أيضاً، مدعوماً بحركة ابتكار واختراع نشطة فثلاث دول هي: اليابان وكوريا الجنوبية والصين هم في قائمة العشرة الأوائل في براءات الاختراع، والأمر الإيجابي هنا أن هذه الدول لا تمانع في نقل التكنولوجيا وخصوصاً العسكرية منها وهو أمر نحتاجه كثيراً.
الأمر الآخر والذي يجب أن نوليه اهتمامنا أيضاً أن زبائن المملكة الرئيسيين المستوردين للنفط هم في الشرق وجنوب شرق آسيا من اليابان وكوريا الجنوبية مروراً بإندونيسيا وماليزيا وبين هاتين الدولتين يقع أهم مضيق بالنسبة لأهم مستورد لنفط المملكة، وهي الصين حيث مضيق «ملقة» الذي يمكن أن نعتبره بأهمية قناة السويس بالنسبة لأوروبا، ودون هذا المضيق ستضطر السفن للالتفاف مسافة طويلة للوصول إلى بحر الصين الجنوبي حيث تزدهر التجارة والصناعة هناك على الساحل الصيني، لذا فأهميته وتعزيز أمنه ليس أمراً مهماً لبكين فقط بل للرياض التي تربطها وهاتين الدولتين الإسلاميتين علاقة جيدة، ويمكن أن يدفع التعاون العسكري بين الرياض وكل من كوالالمبور وجاكرتا وبكين إلى ضمان أمن الطاقة لصالح الدول المستفيدة هناك.
في المدى السياسي يعد مفهوم التعددية القطبية أمراً يجد ترحيباً كبيراً في شرق آسيا وهو ما حفزها على الانضمام في كيانات تقوي من اتحادها كالآسيان ومنظمة شنغهاي و»البريكس» ومجموعة ال77 زائد الصين وهو أمرٌ يعزز من رؤية المملكة في تنويع علاقاتها وزيادة فرص تعاونها في ظل تبني الرياض وإقرارها لذلك المفهوم، ومن هنا فإن التلاقي السياسي كما الاقتصادي يهيئ لحالة الشراكة والتعاون القائمة ويعززها.
إن البعد الثقافي لا يمكن إغفاله في هذه العلاقة بل إنه يعد عاملاً رئيسياً يقوي العلاقة ويساعد على التقارب، فالمملكة وشركائها في الشرق الآسيوي يحملان ذات الهاجس الثقافي في ظل العولمة والتوجه لتعميم النموذج الغربي، لذا نجد أن كلا الجانبين مسكونين بالحفاظ على ثقافاتهما المتماهية في واقع الأمر ولمن يقترب إلى تلك المجتمعات سيجد أنها تحمل ذات القيم المجتمعية مع اختلاف بسيط فهي على سبيل المثال تعطي الحياة الاجتماعية ممثلة بالأسرة أهمية بالغة، ولا نغفل هنا الجانب الديني فالمملكة لديها قوة تأثير كبيرة حيث يعيش في (جنوب – شرق) القارة الآسيوية وشرقها حوالي 280 مليون مسلم، ينظرون إلى المملكة بروحانية واحترام كبيرين.
من هنا حري بنا تحقيق استدارة مثالية شاملة في إطار إستراتيجية واضحة تستهدف (جنوب – شرق) آسيا وشرقها، مستندين للعوامل السابقة متماشين في ذلك مع التوجه العالمي، مع التركيز على نقاط قوتنا وتفعيلها بما يضمن حضوراً ملفتاً، لاسيما أن المملكة على كل المستويات تحظى بسجل متزن وعاقل يجعلها محل ثقة شركائها وأصدقائها هناك.