العرب - كل تدخل دولي في الأقطار العربية يجيب فقط عن سؤال المصلحة الاستراتيجية للطرف الفاعل ولا يحمل في طياته أي استحقاق داخلي محليّ أو إقليمي مجاور للبلد المنكوب. كان من الواضح لكلّ متابع، لم يفقد البوصلة والرؤية خلال أحداث 2011، أنّ الحلف الأطلسي الذي حرّك بوارجه البحرية والجويّة قرب السواحل الليبية لم يضع خططا لإنقاذ الوطن وتأمين الانتقال الديمقراطي في البلاد والحيلولة دون استفحال حكم الميليشيات في البلاد، بقدر ما كان الهدف الأساسي السيطرة على الثروات الباطنية وتحويل كامل منطقة شمال أفريقيا إلى “منطقة فاشلة” يتحكّم الغرب في مواردها وقرارها وخيارها، وحتّى في شكل وتركيبة الحكومات المتعاقبة، وهو الحاصل حاليا مع فايز السراج الملزم بتشكيل حكومة ضيقة يكون برنامجها الحصريّ متجسدا في “شرعنة التدخل الأميركي” في ليبيا. كلّ تدخل دولي يلد آخر، ذلك أنّ السيادة المخترقة أعجز من اجتراح الحلول المحليّة ومن إعادة الإعمار للسيادة المغتصبة.
خلال عقد من الزمان على الأقلّ، والأطلسي يعيد التدخّل في ذات الدول التي سبق له أن استباحها سابقا، من العراق إلى أفغانستان، ومن الصومال إلى ليبيا.
وفي كلّ مرّة يتكرّر ذات السيناريو، شبه سلطات ضعيفة في عاصمة سياسيّة مخترقة بالأحزمة المتفجرة وبصواريخ الكاتيوشا بشبه جيش نصفه غير متدرب ونصفه الآخر مرتبط بأيديولوجيات ما قبل الدولة، حيث تحضر الطائفة والقبيلة والعشيرة.
في كلّ مرة يتكرّر السيناريو المنسحب على معظم الجغرافيا العربية، أشباه جيوش بريّة تتقدّم بحذر تحت الطائرات المقاتلة الأجنبيّة، فيما تسيطر الميليشيات التكفيرية على معظم الجغرافيا المتاخمة للعاصمة السياسية المؤمنّة، استخباراتيا ولوجستيا وعملياتيا وعسكريا، من الجهة الأجنبيّة المتدخلة.
لذا فليس من الغريب أن تتشابه العواصم العربية المسلمة في وضعها الحسّاس القائم تحت سرب من المقاتلات الأجنبية، وعلى تخومها ميليشيات تكفير وتخريب، ووسطها قوات شبه حكوميّة أعجز عن صدّ جحافل الإرهابيين عن مهاجمتهم في أوكارهم، وهو خيط ناظم بات يمتدّ من دمشق إلى بغداد ومن مقديشو إلى طرابلس الغرب.
لم يطرح الغرب على الدول العربية المستباحة استحقاق التحرّر والحريّة إلا “الانعتاق” من مبدأ السيادة الوطنية لتدخل في خانة “السيادة الدوليّة” على المقدّرات والثروات وفي سياق انعدام الخيارات والبدائل وبالتالي أنسنة التدخل الأجنبي في القرار والخيار.
الدخول في سياق “السيادة الدوليّة” للفاعلين الكبار هو الذي يفسّر الاستعداد للتدخل العسكري في ليبيا دون أيّ رجوع لمجلس الأمن أو استصدار قرار جديد في المنتظم الأممي لشرعنة التدخّل، الأمر الذي يفسّر استبطان المتدخلين لفكرة تهميش ليبيا وتحوّلها من دولة سيّدة إلى جغرافيا للاستباحة وفضاء للتدخّل.
المطلوب أميركيا، على الأقل، استمرار حالة “اللادولة” والاستنزاف في ليبيا دون أي حسم لصالح “داعش” أو لفائدة السلطة الوليدة، ودون أي تهديد إنساني أو إرهابيّ للشركاء الأوروبيين، ذلك أنّ الإرهاب لم يكن يوما عدوا لواشنطن التي صنعته واستفادت منه في أفغانستان على وجه الخصوص وتوظّفه دائما ضمن استراتيجيا “الدولة الفاشلة” ولكنّها لا تتأخر في تأطير فعله وتقليم مخالبه كلّما خرج عن الفضاء المسموح له به، وهو ما أقدمت عليه أميركا ضدّ داعش في سوريا والعراق عندما اقترب تنظيم الدولة الإسلامية الإٍرهابي من إسقاط الدولة الكرديّة وبعد سيطرته على كافة آبار النفط.
تدرك تونس أنّ واشنطن اتخذت قرارها بنصف تدخل عسكريّ في ليبيا يبعد تنظيم داعش عن العاصمة طرابلس ولا يقضي عليه، يبقي الحياة في جسد “الحكومة الجديدة” وبعض المؤسسات الحكوميّة، دون أن تسري الدماء في كلّ شرايين الدولة، ودون أن تعود الجغرافيا إلى السيادة الوطنيّة المنهوبة.
طلب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من الدول العازمة على التدخل “إبلاغ” دول الجوار قبل توجيه الضربات العسكريّة في ليبيا. يدرك السبسي أنّ فاتورة “النصف تدخّل” ستكون باهظة جدّا على تونس والجزائر ومصر من حيث استيعاب اللاجئين والتعاون الاستخباراتي لمنع أي تسرّب للمجموعات الإرهابية إليها. والأكيد أنّ أنصاف التدخل العسكري مثله مثل “التدخل الكامل” لا ينقذ أوطانا ولا يؤصل إنسانا ولا يقوّض إرهابا.