الحياة - كنت أشاهد تقريراً استطلاعياً على إحدى الفضائيات الأوروبية، حول الصورة النمطية عن العرب واليهود عند طلاب إحدى المدارس الثانوية الفرنسية. ولأن المدرسة من مدارس «ضواحي» باريس فقد كان طبيعياً أن يصبح معظم طلبتها من العرب والسود.
لم يكن التقرير مليئاً بالمفاجآت، كما توقعت، إذ بقيتْ صورة أسامة بن لادن (قديماً) والدواعش (حديثاً) ممثلةً للعرب، وشايلوك (قديماً وحديثاً) ممثلاً لليهود، وإن تخللت هذه الانطباعات المألوفة بعض المفاجآت التحليلية للشخصيتين في ضوء الوقائع الراهنة. لكن المفاجأة الأبرز بحق، هي عرض هذا التقرير التلفزيوني أمام المشاهد الأوروبي بكل ما فيه من فضفضة عنصرية تمس خطوطاً أوروبية حمراء، على رأسها بالطبع قانون معاداة السامية وقانون تجريم العنصرية العام. هذا عدا عن جرأة البرنامج في المناقشة (على المكشوف) لممانعة المزاج الأوروبي، غير الملمّع، للتنوع والتعددية والانسجام الاجتماعي، وأن ضعف الاندماج الاجتماعي لدى المهاجرين لا تقع مسؤوليته على طرف واحد فقط، بل على طرفين.
بعد أيام قليلة من مشاهدتي التقرير التلفزيوني، قادتني المصادفة لحضور حفلة مع ابنتي كان معظم، إن لم يكن جُلّ حضورها، من السود والعرب واليهود. تكرر المشهد التلفزيوني أمامي مرة أخرى، لكن سيكون هذه المرة من دون مونتاج! ٩٩ في المئة مما يقال ويكتب ويُصوّر عن التمييز العنصري في هذا العالم هو حتماً عن العرب أو اليهود أو السود. ما الذي يجمع هذا الثالوث دوماً عندما يأتي حديث العنصرية؟!
وضع السود يبدو مختلفاً في محدداته ومسبباته وملابساته عن وضعَي العرب واليهود المتثاقفَين تاريخياً، قُرباً أو بُعداً. إذا كان المحدّد «اللوني» هو ما يفسر ببساطة حالة السود مع التمييز العنصري، فإن تفسير الحالتين العربية واليهودية سيبدو أكثر تعقيداً من إخضاعه لمحددٍ واحد، واضح وثابت. تضاءل في الحفلة، أو اختفى، الوجود الفرنسي (النقي)، وتحالف العرب واليهود والسود على الالتئام في حفلة مشتركة خالية من (العنصرية) الفرنسية. لكن هذا التحالف لم يمنع من بناء تحالفات جزئية داخل الحفلة، إذ التأم معظم اليهود في ركن، ومعظم العرب في ركن آخر، والسود في الركن المجاور لسماعات الموسيقى! (هذا ليس انطباعاً عنصرياً، بل عن معاينة مباشرة).
دوّنتُ في ذاكرتي عن تلك الحفلة، أن السود كانوا هم الأسرع تقبّلاً وانسجاماً مع الآخر والأكثر إشاعة للبهجة والتبسّط مع الطرفين الآخرين. العرب يأتون في المرتبة الثانية من حيث المرونة في بناء علاقة مع طرف آخر. اليهود كانوا الأكثر تحلّقاً حول أنفسهم، لا يبادرون لكنهم يستجيبون للمبادرة على مهل. لا نستطيع الجزم بإرجاع هذه الفروقات عن اليهود خصوصاً إلى المكوّن الثقافي والاجتماعي فقط، إذ قد يكون للجانب الأمني الاحترازي تأثير كبير بسبب الظروف السياسية الراهنة. هل يمكن القول إن علاقة العرب واليهود بالتمييز العنصري هي علاقة في اتجاهين: فاعل ومفعول به؟! وأن هذا لا ينطبق بالمثل على السود. السود يتعرضون للعنصرية البشرية مذ خُلقوا سوداً.
اليهود هم الذين بدأوا بممارسة التمييز العنصري، ليس ضد فئة بشرية معينة فقط، بل ضد كل من هو غير يهودي، باعتبارهم (شعب الله المختار). مما استفز بعض (الأغيار) فمارسوا ضد اليهود تمييزاً عنصرياً مناهضاً لفرادتهم المزعومة. العرب حالتهم وسط بين السود واليهود، لكن تاريخهم مع العنصرية بوصفهم فاعلين أطول منه بوصفهم مفعولاً بهم، إذ ارتبط التمييز العنصري ضد العرب بالمؤثرات السياسية والاقتصادية أكثر منه بالجوانب الثقافية والاجتماعية، كما عند اليهود والسود. التمييز سيستمر ضد السود بسبب ثبات مسبّبه، وعند اليهود (مع وضد) بسبب رسوخ المبدأ الديني المتعالي. لكن هل سيطول التمييز العنصري ضد العرب، وهو الذي يظهر ويختفي وفق تقلبات الأوضاع في العالم؟!