العرب - تعتمد الاستراتيجية الأميركية في تطبيق أي تغيير تسعى إليه على آلية الأمر الواقع الذي يتم تهيئة الرأي العام إليه. ويعتبر نعوم تشومسكي هذه الاستراتيجية أحد الوجوه الأخرى للديمقراطية في الولايات المتحدة، حيث يقول في كتابه “السيطرة على الإعلام” “المفهوم الآخر للديمقراطية أن يمنع العامة من إدارة شؤونهم وكذا إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة” ومن أهم هذه الأوجه “حرف الرأي العام من خلال الترويج لمجموعة من المفاهيم تسوق لأحداث يتم التخطيط لاعتمادها”.
وفق هذه الاستراتيجية تسير الولايات المتحدة في حسمها للأمور في العراق بعد تعقّد الموقف الأمني وعدم قدرتها على حسم وجود داعش وتمدده في العراق وغيره، وإعلان الدوائر الأمنية والسياسية الأميركية عدم قدرتها على تحمل الضغوط الأوروبية التي تتهم الولايات المتحدة بتأسيس داعش وبقية تيارات التشدد في المنطقة كرد فعل عكسي لغزو العراق واحتلاله خارج إطار الوفاق الدولي في منظمة الأمم المتحدة عام 2003.
هذه المقدمة هي كل ما تسعى الولايات المتحدة إلى تطبيقه في العراق مستخدمة “سد الموصل” كذريعة في التغيير القادم. وإذا استطلعنا تدرّج التصعيد الأميركي تجاه سد الموصل، فإنه قد بدأ بعدم الاكتراث لا من بعيد ولا من قريب إضافة إلى خلو التصريحات الأميركية من أي خطر أو تعليق حول سد الموصل. ومع تمكن القوات العراقية وقوات المتطوعين والتشكيلات المسلحة من السيطرة على مناطق في صلاح الدين وتطور المشهد السياسي في العراق لصالح قوى إيران الجديدة، بدأ الحديث عن خطر قد يحدث.
ومع تحشد القوات العراقية عند الرمادي واكتشاف وهن داعش وبقية الفصائل المتشددة، ظهر الرئيس الأميركي باراك أوباما ليفصح عن “قلق” الولايات المتحدة من انهيار سد الموصل، لكن مع سيطرة الشيعة على ديالى ووصولهم إلى بيجي وتهديدهم للأتراك، بدأت الولايات المتحدة عبر تصريحات وزير خارجيتها التحدث عن خطر جدي يتهدد سد الموصل من انهيار ربما يكون وشيكا.
وصولا إلى قمة التصعيد في التدرج المذكور جاء التحذير الأميركي وتبليغ الرعايا الأميركان بعدم التواجد في العراق خشية انهيار السد لأن التقارير تشير إلى احتمال ارتفاع المياه إلى 21 مترا في المناطق القريبة من بغداد وخلال ساعة فقط. هذا التصعيد جاء بعد الاتفاق الأميركي الروسي على تقاسم النفوذ وحسم معركة سوريا والإذعان لقوة “إيران – روسيا – الشيعة” في المنطقة.
السياقات التمويهية والفبركات الإعلامية هي من أهم ركائز السياسة التي تستخدمها الولايات المتحدة للسيطرة على العقول والإعلام. وعلى سبيل المثال يسوق تشومسكي أيضا مثال التزييف للمذابح التي ارتكبها الألمان مثل موضوع الأطفال البلجيكيين ذوي الأذرع الممزقة والتي روجت لها، وقتذاك، وزارة الدعاية البريطانية والتي كانت مهمتها “توجيه فكر معظم العالم”، وبعد ذلك السيطرة على فكر الأفراد وتحويل الأفعال من هادئة إلى هستيرية. ليتم تقبل تداعيات الحدث ويقول تشومسكي إنها كانت الموضوع الأهم في حرف الرأي العام وتعبئته للوقوف بوجه النازية.
ما تحاول الإدارة الأميركية أن تفعله من تدرج التصعيد بتهديد انهيار سد الموصل هو “توجيه فكر معظم العالم والعراقيين والمنطقة”، وهو مشروع استخدام الماء بدلا من السلاح وإفراغ المناطق الساخنة قبل إعلان الإقليم السني والشروع بتفكيك العراق إلى أربع إدارات وسلطات مؤقلمة، ويمكن الالتفات إلى أن المنطقة السنية العراقية اليوم مهيأة تماما للانفصال ولكنها تحتاج إلى بغداد، وهو ما يعطلها. وما يجري من حديث في أروقة الإيرانيين والأميركان هو بغداد فيما يصر الإيرانيون على أن الأمر لا يعني بغداد البتة، وإنما يعني المناطق المحيطة بسامراء، لكن الاختراقات الأمنية الأخيرة دللت على أن بغداد ما زالت هي محور النقاش والخلاف.
وفي محاولة من الروس للدخول على طريق التقسيم وفقا لمصالحهم، نوه قبل أيام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف صراحة بأن الفيدرالية ستكون الحل الأنجع لسوريا إن فشل نموذج الدولة القائمة منذ عقد، الأمر الذي يعزز المشروع الأميركي في العراق.
إذن المياه قادمة لتطهير العراق وفق نظرية الحل الأميركي المبلل وتغيير ديموغرافيته وتحويله إلى مناطق نفوذ إيرانية وتركية وأميركية. وما لم تستطع النيران فعله ستحسمه المياه، حيث أن حل الأزمة من الأرض هذه المرة سيختلف كثيرا عن حسمها من الجو، فالمياه ستجرف قوة وجود داعش وتفقده جدوى الدفاع عن مناطق تغمرها المياه، وتجعل المواجهة بينه وبين عامة المبتلين به من سكان المناطق التي يحتلها إجبارية، ولا وجود لتطبيق شريعة في ظل وضع متأزم واستثنائي على غرار الفيضانات.
كما سيلفت غرق المناطق الساخنة المجتمع الدولي إلى الاهتمام بإعمارها والشروع في بنائها وتقوية روابطها مع الجهات التي يتم انتقاؤها لتكون فاعلة مع الإقليم السني في المستقبل.