العرب - من قبيل التهويل على السنة وعلى قوى 14 آذار، يجري التلويح من قبل أبواق محور الممانعة بعقد مؤتمر تأسيسي ينسف اتفاق الطائف، والمضحك أن هذه الفزاعة يتم استخدامها أحيانا ضد المملكة العربية السعودية، وجانب الطرافة أن الطائف حل أزمة لبنانية لا سعودية، وبالتالي فإن إلغاء الطائف يعني العودة إلى ما قبله لبنانيا، أي أن تهديد المملكة بذلك في غير محله.
ولنفترض مثلا، أن المؤتمر التأسيسي المأمول أو المزعوم قد انعقد فعلا، هل سيشكل انتصارا لحلفاء محور الممانعة في لبنان؟ بالتأكيد لا. ونقيس على ذلك باتفاق الطائف نفسه الذي انعقد في ظل ظرفين يحضران اليوم، الميليشيا والفراغ، ونلاحظ أن قوى السلاح غير الشرعي والفراغ كانا مدعومين دوليا وإقليميا كما هو حال هذه القوى اليوم، لكن فواكه الطائف كانت من نصيب الآخرين، وهذا ما سيتكرر اليوم، لن يعطى أي امتياز لمن تسبب بالفراغ، ولن يفرح مرتزقة الميليشيا الذين وجهوا سلاحهم للداخل وللخارج بأي مكسب، خصوصا وهم مطلوبون دوليا في جرائم الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال، ومصنفون إقليميا كمنظمات إرهابية.
فكرة الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي ساقطة من أساسها، فمن تسبب في عقوبات أميركية مصرفية بسبب نشاطه الإجرامي في أميركا وأوروبا، إضافة إلى لائحة طويلة من ممارسات الإرهاب والإجرام في دول الخليج وعالم العرب، ومن تسبب في جفوة خليجية- لبنانية بسبب قيادته لوزارة الخارجية، ستكون فرصة المؤتمر التأسيسي وبالا عليه، ولو فكر في 7 أيار أخرى، سيثبت على نفسه الحصار ويضاعفه إضافة إلى التصادم مع المعطيات الديموغرافية الجديدة المفروضة بواقع اللاجئين، وكما أنتجت 7 أيار الأولى هزيمة سياسية لمحور الممانعة والميليشيا، ستنتج 7 أيار الثانية هزيمة سياسية أكبر. باختصار لن يسمح المجتمع الدولي بانتصار لإرهابي أو لمُعطل لعدم تشريع التعطيل والإرهاب وسيلة لتحقيق المكاسب السياسية حاضرا ومستقبلا في لبنان وفي غيره.
التحديات التي تواجه مستقبل السنة في لبنان وغيره داخلية وعضوية بالدرجة الأولى، فميليشيات إيران لن تشكل خطرا على المدى البعيد رغم ضررها الفادح راهنا، فإيران الشيعية والأعجمية لن تتمكن من إقامة آمنة ودائمة في عالم العرب السني، وقد فشلت تركيا قبلها بسبب أعجميتها، فما بالنا باختلاف اللسان والمذهب معا، والحديث عن التلاعب بتوازنات الحصص داخل الدولة اللبنانية في غير مكانه، فالكثرة والانتشار يكفلان إسقاط أي عبث بالوضع القائم، إضافة إلى ذلك، فالسنة للبنان لا غنى للدولة عنهم لأنهم سفراء الاتصال والاندماج بمحيطهم العربي اللصيق، كما أن المسيحيين هم سفراء الاتصال بالغرب البعيد.
أولى التحديات التي تواجه السنة هي ضرورة إحداث القطيعة مع السلفية والإسلاموية، فإذا تحدثنا عقديا وعلميا، فهناك فوارق لا يصح تجاهلها، فالإسلاموية تحمل في طياتها رواسب الناصبية والتجسيم اللذين يعتبران مروقا من وجهة النظر السنية، كما أنهم يثلثون التوحيد (ربوبية وألوهية وأسماء وصفات)، وأدى ذلك إلى كارثتين السنة منهما براء، الأولى كارثة الحاكمية التي تفرعت عن توحيد الألوهية وكفرت الدول والحكام، أما الثانية فهي بدعة توحيد الأسماء والصفات التي أتاحت للسلفية والإسلامية تكفير القسم الأكبر من السنة.
غياب هذه القطيعة وضع على السنة حملا ثقيلا، فأصبحت جماعات الإرهاب كداعش والقاعدة تصنف زورا جماعات سنية، بدلا من تصنيفها الصحيح الذي نطالب بالقطيعة معه، وكل جماعات الإرهاب في ذلك الفلك، وإذ نتابع وسائل الإعلام نشعر بدهشة بالغة، فالعويل والنحيب يطال ضحايا الإرهاب من المسيحيين واليزيديين وغيرهم، أما الضحايا السنة لذلك الإرهاب، وهم أكثر عددا بأضعاف مضاعفة على مساحة العالمين العربي والإسلامي، فلا بواكي لهم، وكأن الخطاب الإعلامي يقول إن السنة يقتلون بعضهم بعضا وبالتالي لا قيمة لأرواحهم وحياتهم ودمائهم، بل وهناك غض طرف عن استهدافهم الممنهج من الميليشيات الإيرانية الطائفية، وكأن المشهد يقول وحيث أن الإرهاب من السنة فلا بأس بضرب السنة، والمفارقة هنا ليست إعلامية فقط، ففي ظل غياب القطيعة مع من يحسبون أنفسهم سنة تصبح المشكلة ثقافية وفكرية كذلك.
ثاني التحديات هي شبح انهيار الدولة الذي يحوم على منطقتنا، وإذ ننظر إلى تاريخ المنطقة وسنتها، سنلحظ أن السنة هم السمك في حال كانت الدولة بحرا، لا حياة لنا في غير الدولة، على عكس الآخرين الذين يجدون في صحراء اللا دولة انطلاقهم، وربما نجح غيرنا إقليميا في بناء الأوطان، لكن بناء الدولة هو اختصاصنا ومهنتنا ولو بالحد الأدنى مهما كانت حصتنا في هذه الدولة، والملاحظ أن خروجنا من بحر الدولة أدى إلى موت السمك وتبخر البحر، ولنا في العراق وفي ليبيا المثال الناصع. وإنني إذ أرى الأخطار تتربص بفكرة الدولة وقيمتها، لا بد أن أتخوف من ثلاث بؤر، بؤرة الإرهاب الإسلاموي السلفي الذي سيبتلعنا وسيبتلع الدولة إذا لم نحدث معه القطيعة المعرفية والعقدية، وبؤرة إيران الطائفية، والبؤرة الإسرائيلية العنصرية.
كل التحولات التي عصفت بالمنطقة كان لها ارتباط بالصراع العربي- الإسرائيلي، فنؤرخ لحظة الصعود الإسلاموي بنكسة 1967 التي نخرت أو فضحت المشاريع القومية واليسارية، وتتسلل إيران إلى ساحتنا الداخلية بذريعة القضية الفلسطينية، ومضى حين من الدهر كان حكام العرب يسرقون شعوبهم ويستعبدونهم باسم فلسطين، وكانت أكثر المشاهد الكوميدية مؤخرا هي انقلاب الحوثيين على الشرعية اليمنية بذريعة مقاتلة إسرائيل، ولا يخفى على لبيب تلك الموازاة اللافتة؛ الصهاينة يريدون دولة يهودية، والإسلامويون يريدون دولة إسلامية.
ولا جدال بأنه لا حرب عسكرية مع إسرائيل من دون مصر، إلا أننا نلفت النظر بأن خيار السلام حرب أيضا، لكنها حرب حضارية ومدنية ربما تكون أصعب وأشمل من معارك العسكر، وفشل مشروع السلام لا يكفي أن نحيله إلى الصلف الإسرائيلي فقط، فهناك عيوب في صفوفنا، كالانقساميْن الفلسطيني والعربي، ومقاطعتنا لعرب 1948، وإهمال التواصل المباشر والشامل مع أرضنا وأهلنا في فلسطين بذريعة مغلوطة هي “عدم الاعتراف بالعدو”، والأهم من كل ذلك، هو عدم تأسيسنا لشبكة مصالح في الأراضي المحتلة تتيح لنا الضغط على إسرائيل واهمين بدعم أميركي مجاني لن ينصفنا حتى في الأحلام.
ونضع إيران وإسرائيل في مرتبة واحدة، لأن العدو فكرة وسلوك لا هوية، فإسرائيل ليست عدوا لمجرد أنها إسرائيل، بل بسبب احتلال أرضنا وعنصريتها، وهي صفات حاضرة في إيران راهنا، فاحتلال الأراضي العربية واستهداف دولها نراهما كل يوم وفي غير مكان، وعنصرية الطائفة والعرق لا ينكرها حتى الجهال، وللأسف، فإن الإجرام الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين فاق، أقله كمّا، جرائم إسرائيل، وهذه مذمة لإيران وليست مدحا لإسرائيل، لذلك فطرح معركة السلام مع إيران مبكر جدا، فالمطلوب أن يتراجع السوء الإيراني لدرجة السوء الإسرائيلي حتى نطرح مشروع السلام معها.
موضوعيا، هناك حلف إسلاموي- إسرائيلي من جهة، وهناك حلف إيراني- إسرائيلي من جهة أخرى، وحلف إيراني- إسلاموي من جهة ثالثة، فكل طرف يعزز ويدعم مشروعية الآخر ووجوده، وإيران فوق إرهابها المباشر من تطفلها على دول عربية، وحربها على السنة تحت غطاء الحرب على الإرهاب، وبث الفتنة الطائفية تحت عنوان العمل الخيري والدعوة، يتجلى خطرها على الدولة مزدوجا، فمن جهة هناك استهداف مباشر للكيان القائم، وهناك استهداف غير مباشر ربما يكون أشدّ وقعا، أي عدم الاعتراف بالكيان القائم، من أساسه، بإقامة العلاقة مع جماعات من دون المرور عبر الدولة.
وفي رأيي إننا نتحمل قسطا واسعا من مسؤولية التغول الإيراني، فالدول العربية التي في أغلبها تميل للمحافظة، لم تدرك أن المحافظة لم تعد عنوانا جاذبا في دنيا العرب، وهذا ما أتاح لإيران دغدغة أحلام بعض العوام، فارتفاع معدلات الفساد والبطالة، وغياب تداول السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان، وانعدام حرية الرأي، واحتقار تجديد الخطاب الديني، وإهمال الدول العربية الكبيرة والمستقرة لبعض جيرانها خصوصا بعد الربيع العربي، بوابة عريضة لكل عدو كي يفعل ما فعلته إيران وأكثر.
في ظل كل ما سبق، إضافة إلى القرارات الخليجية والدولية التي طالت لبنان مؤخرا، نخرج بخلاصات واضحة، فالمصالحة السنية- السنية محمودة ومطلوبة، ولا بد من التأكيد على أن المصالحة والوحدة لا نعنيان التطابق، بل حفظ التنوع وإدارة الاختلافات على قاعدة القواسم المشتركة، ولعل أهم قاسم هو أننا رسل الدولة وحراسها، لكن هذا الحرص على الدولة لا يعني الاستسلام للميليشيات.
ونضيف أيضا، التأكيد على سقوط نظرية “قوة حزب الله من قوة لبنان”، ورأينا بأنفسنا أن قضم الميليشيا للدولة سيحول لبنان دولة مارقة ومحاصرة إقليميا ودوليا، وإذا استمرت جرائم الحزب الإلهي محليا وإقليميا ودوليا ستكون العواقب أفدح، قطعا سيأتي يوم يزول فيه سلاح حزب الله، ويوما ما سترحل إيران وإسرائيل، لكن رحيلهما اليوم أفضل من الغد، ورحيلهما بعد سنة أفضل من رحيلهما بعد قرن، لأن أضرار إطالة البقاء قد تؤدي إلى تشوهات ربما تستعصي على العلاج.
ونشير كذلك، إلى ضرورة التحلي ببعض التواضع، والإيمان بالمساواة والشراكة مع مختلف مكونات المنطقة، وهذا التفكير ينسف تحالف الأقليات الذي اعتمدت عليه إسرائيل وتعتمد عليه إيران لتدميرنا.
وأخيرا، الحذر من التشبه بأعدائنا، لا لعنصرية إسرائيل ولا لطائفية إيران وميليشياتها، ولا للإسلاموية كلها، فالأعداء لا يفرحون بانتصار مؤقت أو طويل في معركة عسكرية، لأن انتصارهم الأكبر هو أن يجعلونا نشبههم، وهذا أكثر ما أخافه.