العرب - من يهتم بالتاريخ السعودي، لا بد أن يمرّ عليه اسم معالي الوزير حسن شربتلي، فهذا الرجل -وفق موقعه الرسمي- أول من نال فخريا لقب “وزير دولة”، وكسب ثقة ملوك المملكة بداية من الملك عبدالعزيز إلى وفاة الشربتلي نفسه عام 1999. ومن القصص الرائجة، أنه في الستينات الميلادية، تعرّضت المملكة لأزمة مالية، فلجأ فيصل بن عبدالعزيز إلى سالم بن محفوظ مالك البنك الأهلي، وكان المطلوب قرضا يقدر بـ1 مليون ريال لسداد مرتبات موظفي الدولة. أراد بن محفوظ خطابا رسميا من وزير المالية للموافقة عليه، وحينها تراجع الفيصل عن طلبه، فقد بدا له أن هناك أزمة ثقة. وصل الخبر إلى السيد حسن شربتلي، فتواصل مع الفيصل وقال له “أنا ومالي وأملاكي وأولادي تحت تصرفك”؛ نالت الحكومة القرض الذي تريده، وتضاعف نفوذ الشربتلي كما يريد.
وعرف عن السيد الشربتلي حبه الكبير والجارف لمصر، وعليه فقد قدم بين أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات منحة سخية جدا للأزهر الشريف، وله قصة أبعد زمنيا. قام الشربتلي -بحسن نية- بإرسال شاحنة إلى منزل الرئيس جمال عبدالناصر محملة بهدايا كثيرة وثمينة للأسرة الرئاسية، تبدأ بالحلل الفاخرة وتنتهي بألعاب الأطفال مرورا بالساعات والمجوهرات وكل ما يخطر على البال، وقد أعاد عبدالناصر حمولة الشاحنة كما هي للشربتلي في نفس اليوم. وباستثناء هذه القصة، يسجل للشربتلي موهبته الفائقة والناجعة في التعامل مع رؤساء الدول وعلية القوم. وللشربتلي قصة معروفة على هامش المشهد الأدبي، فقد عرف عنه عنايته بنشر بعض المراجع التراثية تطوعا، وعليه فقد أعاد طباعة معجم الصحّاح الذي أعاد تحقيقه الأديب الرائد أحمد عبدالغفور عطار. طبع الشربتلي 10 آلاف نسخة من المعجم ووزعها مجانا، هنا ثار العطار وأبرق للملك خالد شاكيا بأن الشربتلي تعدّى على حقوقه الأدبية والمادية معا مطالبا بتعويض يقدر بـ400 مليون ريال.
أحال الملك خالد شكوى العطار إلى وزارة الإعلام، فشكل الوزير محمد عبده يماني لجنة تنظر في القضية، تألفت اللجنة من: عبدالرحمن الراشد (وكيل وزارة الإعلام الداخلي)، حامد مطاوع (رئيس تحرير صحيفة الندوة)، عبدالله فقيه (مدير المطبوعات في المنطقة الغربية) ورئيس تهامة محمد سعيد طيب. كانت حجة العطار، أن المحقق كالمؤلف الحقيقي، وأن ما قام به الشربتلي ألحق به الضرر، لذلك هو يطالب بتعويض ما لحقه من خسارة وما فاته من كسب. وفي المقابل قال السيد حسن إنه لا يتاجر في الكتب، إنما يتاجر في الأرزاق والأراضي، وأن كل كتاب طبعه -ومن ضمنها هذا المعجم- هو لوجه الله. وقد بذل عضو اللجنة، محمد سعيد طيب، كل جهد لحل المسألة وديا ولم يوفق، خصوصا وأنه يرى كلا الطرفين على حق.
أتذكر هذه الأخبار، وقد قادتني الصدفة إلى وثيقة نادرة وجدتها في مركز “أمم” للأبحاث والتوثيق، العدد 109 من مجلة الحوادث اللبنانية بتاريخ 14 نوفمبر 1958، حيث نشرت المجلة قصة لافتة على صفحتين بعنوان مثير “قصة الفيلم السعودي اللبناني، قافلة الفضة التائهة بين جدة وبيروت، بطولة الوزير حسن شربتلي والمليونير نجيب صالحة”. نجيب صالحة رجل أعمال لبناني بارز ومعروف. ارتبط اسمه بأشهر الفنادق البيروتية وأفخمها. في عام 1948 عيّنه الملك عبدالعزيز وكيلا لوزارة المالية ليكون صلة وصل بين التجار وبين الحكومة، وبين الحكومة وبين الخارج أيضا. وتحدثت المجلة بأن الشربتلي -آنذاك- كان يسيطر على 70 بالمئة من المشهد التجاري السعودي وأن ثروته تقدر بألف مليون ريال سعودي.
والحقيقة أنني لم أستغرب هذه الأرقام عن الشربتلي، فقد أوصى الرجل بأن يذهب ثلث ثروته بعد وفاته إلى الجمعيات الخيرية، وقيل إن المبلغ يتجاوز المليار ريال، وما سمعناه أيضا أن تركة الشربتلي لم توزع على الورثة -لصعوبات تتعلق بالحصر والتقييم- زمنا طويلا ربما وصل إلى يومنا هذا. انتهت علاقة صالحة بوزارة المالية بإقالة غامضة، وقبل مغادرته المملكة بعد تكوين ثروة تقدر بأصفار ستة، سلمه الشربتلي تحويلات على وزارة المالية تقدر بخمسة ملايين ريال، وإلى جانبها شيكات بعملات أجنبية تقدر بخمسة ملايين أخرى، ليكون مجموع ما استلمه صالحة من الشربتلي هو عشرة ملايين ريال، والهدف هو أن يقوم صالحة بشراء عقارات للشربتلي في مصر.
مرت ست سنوات على هذه الحادثة، لم يشتر صالحة العقارات ولم يسترد الشربتلي مبلغه، وحين طالب الشربتلي بحقه وصلته رسالة من صالحة نصها “أرجو من معالي الأخ حسن شربتلي أن لا يلعب بالنار”. قرر الشربتلي مقاضاة صالحة أمام المحاكم اللبنانية، ووكل محاميا هو كاظم الخليل مقابل 20 بالمئة من صافي المبلغ. والخليل هو سياسي بارز ذو ميول شمعونية، انتخب نائبا لخمس دورات، وتولى الوزارة ثماني مرات.تكررت زيارات الشربتلي للبنان من أجل متابعة سير المحاكمة، ووفق نص الحوادث “استطاع كاظم الخليل، في أيام، أن يجعل الشربتلي أسطورة يتحدث عنها لبنان. تبرعات وحفلات ومجوهرات وصفقات جانبية”، ومن أهم الصفقات شراء يخت الرئيس كميل شمعون بـ150 ألف ليرة، أي أن شمعون حقق “ربحا” يقدر بـ130 ألف ليرة، وهدف الشراء معروف ودور الخليل مفهوم.
قال صالحة في المحكمة إنه سلم مبلغ الشربتلي إليه في جدة كريالات فضة، وهنا رد الشربتلي “أرجو أن ألفت النظر إلى حقيقة بسيطة، إن خمسة ملايين ريال من الفضة تعادل 118 طنا، أي حمولة 59 كميون متوسط الحجم، أين كان نجيب صالحة يضع هذه الكميات من الفضة حتى يسلمني إياها في جدة؟ وهل هناك شاهد واحد على عملية التسليم هذه؟”. وأوضح الشربتلي بأنه لو تصورت المحكمة بأن صالحة وضع هذه الكمية في منزله فهذا غير منطقي، لأن منزله يتألف من حجرتين وصالون وغرفة طعام، كأي منزل حكومي، وبالتالي لا مجال بأن يستوعب حتى ربع المبلغ. لكن المحكمة لم تصدر حكما نهائيا، واستمرأت تأجيل الجلسات. في هذه الأثناء قام الملك سعود بزيارة لبنان، توسط الرئيس حسين العويني لدى الملك للعفو عن صالحة، وهذا ما حدث، وهنا استأذن صالحة للاستثمار في المملكة فمنحه الملك سعود مباركته.
عاد صالحة إلى المملكة، ذهب الشربتلي إلى الملك طالبا موافقته على الاختصام مع صالحة أمام الشرع، وافق الملك، وصدر قرار رسمي بالتحفظ على شخص صالحة ومنعه من السفر إلى حين البت في الدعوى، لكن ثريا سعوديا بارزا، هو إبراهيم شاكر، كفل صالحة أمام المحكمة ليتمكن من المغادرة إلى لبنان، بعد أسابيع أبرق شاكر إلى صالحة مطالبا بسرعة عودته، فقد صدر حكم ابتدائي بدفع المبلغ للشربتلي. وهنا وكّل صالحة الرئيس عبدالله اليافي محاميا عنه، واليافي -كما هو معروف- تولى رئاسة الحكومة غير مرة في عهود إميل إده وبشارة الخوري وكميل شمعون وشارل حلو. سافر اليافي وصالحة إلى المملكة، وقع اليافي في حيرة خانقة، فصالحة يؤكد أن القضية مختلقة كليا، وفي نفس الوقت هناك حكم قضائي.
قام اليافي بجولة سياسية واسعة، بدأت من الأمير عبدالله الفيصل ومرّت بولي العهد فيصل بن عبدالعزيز وانتهت بالملك سعود، وإثر هذه الجولة اقترح الملك تقسيط المبلغ المستحق للشربتلي على سنة ونصف، فجاء رد الشربتلي بأنه هو وأولاده وأمواله ملك للملك، إلا أن إمكانيات صالحة تمكّنه من سداد دينه على الفور، وأن الشربتلي أولى بالعطف الملكي من صالحة، وهنا انتهت وساطة سعود. في 27 أكتوبر 1958 أصدرت المحكمة الشرعية العليا في جدة حكمها النهائي، أن يقوم صالحة بدفع المبلغ المستحق للشربتلي فورا أو السجن. هرع صالحة إلى السفارة اللبنانية معتصما.
وجه الرئيس حسين العويني (الذي كان وزيرا للخارجية) بأن يقطع السفير اللبناني حسين الجسر إجازته السنوية للعودة إلى جدة من أجل حماية العلاقات الودية بين السعودية ولبنان في هذا التوقيت الحساس. وفي اليوم التالي كان عبدالله اليافي في جدة لتسوية القضية مع الشربتلي، لكنه لم ينجح في إحراز أي تقدم، وعليه اتجه إلى الرياض على ضيافة الملك لحل الموضوع. وإلى تاريخ نشر القصة، مازال صالحة معتصما في السفارة، واليافي بمعية الملك، والغريب أن الأعداد اللاحقة للحوادث خلت من أي متابعة للقضية، لكن منطق الأمور لا بدّ وأنه وصل إلى نهاية سعيدة لكل الأطراف.